رحلة داخل حديقتنا الدماغية… هل تُجدد الخلايا العصبية حقًا نفسها؟

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
رحلة داخل حديقتنا الدماغية… هل تُجدد الخلايا العصبية حقًا نفسها؟

تَخيل أنَّك بعد يومٍ شاقٍ في العمل، عُدت إلى غرفتك لتَغُط في نومٍ عميقٍ وتُريح جسدك، وإذ بأحلامك تتلاعب معك كعادتها؛ ولكن هذه المرة تأخُذك لرحلةٍ صغيرةٍ، تجدْ نفسك فيها تسير بين خلايا مخك، فتجدّها لا تَكلّ وتعمل بكُلّ جُهدها –في حين أنّك في سُباتك لا تَدري شيئًا- فتتحدث إلى إحدى هذه الخلايا النشطة لتسألها عما يجري هنا، فتُخبرك بأنّ هذا وقت التنظيف وإصلاح ما أتلفته.


الآن استـيقظ من نومك عزيزي القارئ، وسأشرح لك كُلَّ شيءٍ خلال جولتنا الصغيرة في علوم الأعصاب…


دماغك حديقتك الخاصة


تَخيل أنَّ دماغك ما هو إلا حديقة، إلا أنّه بدلًا من نمو الأزهار والأشجار، تنمو روابط مُتشابكة بين الخلايا العصبية والتي تحمل السيالات والنواقل العصبية، لتأدية مهام المخ المختلفة.


ولأنَّ لكلّ حديقة البُستانيّ الخاص بها، فالمخ أيضًا يمتلك واحدًا، وتُسمى الخلايا الدبقية Glial cells، الموجودة بكلٍ من المخ والحبل الشوكي، والتي تعمل على تسريع الإشارات بين الخلايا العصبية وكذلك تجديد التالف منها، ومثلما تحتاج الحديقة للاهتمام وتقليم الزرع والتخلص من الأعشاب والآفات الضارة، يأتي دور إحدى الخلايا الدبقية الصغيرة والتي تُسمى microglia، والتي تعمل كخلايا آكلة تلتهم الخلايا الميتة والتالفة، ولكن هذه العملية لا تتم بصورة عشوائية؛ فهذه الخلايا الآكلة تلتهم الخلايا التالفة من خلال الارتباط بنوع معين من البروتينات -المتواجد بالخلايا التالفة- ومن ثَم ابتلاعها والتخلص منها.


هل بإمكاننا، نحن البالغين، إنتاج خلايا عصبية جديدة؟


قديمًا، افترضت إحدى النظريات أنَّ عملية إنتاج خلايا عصبية جديدة تتوقف عند مرحلة البلوغ، وافترضت أُخرى أنّنا جميعًا وُلدنا بجميع خلايانا العصبية كاملة، ما إنْ تم استهلاك إحداها فلن يتم تعويضها.


لكن الباحثين وجدوا أنَّ بإمكاننا -نحن البالغين- الاستمرار في إنتاج خلايا عصبية جديدة طوال حياتنا على الأقل حتى 97 عامًا، ولكن هذا لا يتعارض مع فكرة أنَّ تَذكُر الأشياء يبدّو أصعب كُلما تقدّمنا بالعمر.


هُنا يفرض السؤال نفسه، إذا كان بإمكاننا إنتاج خلايا عصبية جديدة طوال حياتنا، فلماذا تتراجع قدرات المخ في الشيخوخة؟


في دراسة نُشرت بمجلة Nature، قام الباحثون بفحص أنسجة المخ المتبرع بها من 13 مريضًا متوفيًا -خلال 24 ساعة من الوفاة- يتراوح أعمارهم ما بين 43 و 87، ولم يُعانوا من أمراض عصبية قبل الوفاة، تركزت الدراسة على منطقة الحُصين بالمخ hippocampus، والتي تُساهم في عملية التّعلُم والذاكرة، وكانت المفاجأة فقد وجدوا في هذه الأنسجة عشرات الآلاف من الخلايا العصبية الجديدة تحت التكوين.


رحلة داخل حديقتنا الدماغية… هل تُجدد الخلايا العصبية حقًا نفسها؟


وعلى الرغم من أنَّ عدد هذه الخلايا يقلّ مع تقدم السن، إلا أنَّ عدد الخلايا بين أصغر متبرع إلى أكبر متبرع سنًا قلّ من 40 ألف إلى 30 ألف خلية عصبية فقط.


لاحظ الباحثون أيضًا أنَّ أنسجة المخ لدى الأشخاص الأكبر سنًا تحتوي على عدد أقل من الأوعية الدموية، وتمتلك نسبة أقل من الخلايا السلفية progenitor cells، والقابلة للتمايز -كالخلايا الجذعية- نوعًا خاصًا من الأنسجة.


يعتقد الباحثون أنَّ تراجع قدرات المخ مع تقدم السن يرجع إلى قلة الخلايا الجذعية العصبية، ونقص الاتصال العصبي بين الخلايا بمنطقة الحُصين.


وفي الدراسة نفسها، أُجريت الأبحاث أيضًا على أشخاص آخرين كانوا يُعانون من مرض الزهايمر قبل وفاتهم، فقاموا بفحص أنسجة المخ لحوالي 45 مُتوفيًا تتراوح أعمارهم ما بين 52 إلى 97 عامًا، وكانت جميع هذه العينات من أصغرهم لأكبرهم سنًا تحتوي على خلايا عصبية تحت التكوين.


لكن بالرغم أنَّ أنسجة المخ الخاصة بمرضى الزهايمر أوضحت الدليل على عملية تكوين خلايا عصبية جديدة، إلا أنًّ الاختلاف واضح إذا ما قُورنت بأنسجة الأصحاء، فنسبة الخلايا العصبية الجديدة تقل بما يقرب من النصف أو الثلاثة أرباع في المراحل المبكرة من مرض الألزهايمر الناتج عن تراكم مادة B amyloid protein.


العودة لنقطة البداية والانطلاق مُجددًا


رحلة داخل حديقتنا الدماغية… هل تُجدد الخلايا العصبية حقًا نفسها؟


في الخامس عشر من أبريل لهذا العام 2020، نُشرت نتائج جديدة في مجلة Nature، من قِبل باحثين في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، أشارت إلى أنَّه عندما تُصاب خلايا الدماغ للأشخاص البالغين، فإنّها تَعود إلى الحالة الجنينية لإصلاح نفسها.


أشار الباحثون في هذه الدراسة أنّه في حالتها غير الناضجة، تُصبح الخلايا قادرة على إعادة تجديد اتصالات عصبية جديدة يُمكن- في ظل الظروف المناسبة- أنْ تُساعد في استعادة وظيفة مفقودة.


هذه الدراسة تضع خارطةً للطريق نحو إعادة تجديد الخلايا العصبية للبالغين، حيث كانت فكرة إصلاح تلف الدماغ والحبل الشوكي تحديًا صعبًا حتى وقت قريب نسبيًا.


قام العلماء بالجمع المُذهل بين علم الأعصاب الحديث وعلم الوراثة الجُزيئيّ وعلم الفيروسات؛ ليتمكنوا من فهم آلية عمل الجينات بالخلايا الدماغية البالغة وقدرتها على تجديدها.


بإجراء الدراسة على فأر، اكتشفوا أنَّه بعد الإصابة تعود الخلايا العصبية الناضجة في أدمغة البالغين إلى الحالة الجنينية، مما يُبين خطأ الافتراضات القديمة بأنَّ خلايا الدماغ لشخص بالغ غير قابلة للتغيير، فقد وجدوا  أنَّ خلايا الدماغ الجديدة يتم إنتاجها باستمرار في منطقة الحُصين ومنطقة تحت البُطين subventricular zone ؛ مما يُعيد تجديد مناطق الدماغ طوال الحياة.


وأضافوا أنَّ قُدرة الدماغ على إصلاح نفسه لا تقتصر فقط على منطقتين. فعندما تُصاب خلية الدماغ البالغة من القشرة الدماغية ، فإنها تعود إلى الخلايا العصبية الجنينية بالقشرة الدماغية embryonic cortical neuron حيث يُمكنها من جديد إعادة بناء المحاور العصبية إذا تم توفير بيئة للنمو.


ومن أجل توفير بيئة مناسبة لإعادة النمو، قام العلماء أيضًا بدراسة آلية استجابة الخلايا العصبية التالفة بعد إصابة في النخاع الشوكي. في السنوات الأخيرة، توصلّ الباحثون لإمكانية استخدام الخلايا الجذعية العصبية لتحفيز إصلاحات إصابات الحبل الشوكي واستعادة الوظيفة المفقودة، عن طريق حث الخلايا العصبية على إعادة بناء المحاور العصبية axons، وإعادة الاتصال العصبي بين الأعصاب المقطوعة.


وبنفس الدراسة جاءت المفاجأة، اكتشف العلماء أنَّ أحد المسارات الجينية الأساسية المحفزة لعملية الإصلاح تُعزَى إلى الجين (Huntingtin (HTT، والذي يتسبب- عند حدوث طفرة- في مرض هنتنغتون، وهو اضطراب يُسبب تلفًا تدريجيًا للخلايا العصبية في الدماغ. ووجد الفريق البحثي أنَّ عملية النسخ الجيني من جزيئات الحمض النووي messenger RNA التي تستخدمها الخلايا العصبية يدعمها جين HTT.


حافظ على حديقتك


من هنا يفرض السؤال نفسه، هل يمكننا التحكم بتكوين الخلايا العصبية؟


جاءت الإجابة على هذا السؤال بإحدى المحاضرات على TED للدكتورة ساندرين ثورات أخصائية الجهاز العصبي، مؤكدةً أنَّ عملية التّعلم تُساهم في تعزيز تكوين الخلايا العصبية، وأنَّ كلًا من التوتر والحرمان من النوم يَضُران بعملية التكوين، فأثناء النوم تتحفز عملية التخلص من الخلايا الميتة والتالفة.


وكذلك ممارسة الرياضة والحصول على غذاء صحي متوازن، يعملان على تعزيز العملية، فحدّ السُعرات الحرارية من 20 إلى 30% وكذلك تخصيص فترات استراحة بين وجبات الطعام سيساهم في ارتفاع تكوّن الخلايا العصبية.


وأخيرًا..


دومًا يُبهرنا علماء الأعصاب بسعيهم المستمر لتفسير كافة الظواهر التي تحدث داخل أدمغتنا، وهذا لا يدع مجالًا للشك في الكثير من الدراسات والنتائج الواعدة التي تَلُوح في الأفق في المستقبل القريب.


يُمكنك الآن استكمال نومك عزيزي القارئ، وتذكر أن النوم الكافي ضروري لعملية تكوين الخلايا العصبية الجديدة.