لهذا السبب تمل من الدراسة، خاصية إرجاء الإشباع ودورها في النجاح الدراسي

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
لهذا السبب تمل من الدراسة، خاصية إرجاء الإشباع ودورها في النجاح الدراسي

إليك هذا الموقف المتكرر: تبدأ بالجلوس على المكتب للإعداد للدراسة، تفتح الكتاب وتحاول البدء، فتنتهي جلسة المذاكرة أثناء المحاولات المستمرة للبدء، تصارع نفسك فيها بالملل من المادة المطروحة أمامك، فتتركها وتفتح هاتفك الذكي لتصفُّح مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة عدد الإعجابات على منشورك الأخير، وينتهي اليوم دون إنجاز يُذكر.


يحدث هذا الموقف مرارًا وتكرارًا معنا، يمل المرء سريعًا من الأنشطة المفيدة على المدى البعيد غير المجزية على المدى القريب، مثل الدراسة وممارسة الرياضة، بينما يميل إلى أنشطة أخرى لا تحقق عائدًا على المدى البعيد ولكنها توفر إشباعًا على المدى القريب، مثل إعجابات فيسبوك. يكمن الفرق بين النشاطين في «الإشباع» أو المتعة الناتجة عنهما، أو بلغة الكيمياء عن «الدوبامين» الذي يثيره كل نشاط في الدماغ، فبينما تثير إعجابات فيسبوك إشباعًا لحظيًا على المدى القريب، لأنها تغذي شعور المرء بالاهتمام الاجتماعي، لكنها لا تفيده على المدى البعيد مثل النجاح الدراسي أو القراءة أو التغذية الصحية وممارسة الرياضة.


مارشميلو الآن أم اثنتان بعد ساعات؟


منذ ما يزيد على 40 عامًا، أجرى عالم النفس النمساوي الأمريكي والتر ميشيل تجربة المارشميلو، يستكشف فيها ضبط النفس لدى الأطفال باختبار بسيط فعّال. قدّم ميشيل للأطفال في سن قبل المدرسة قطعة من المارشميلو، على اتفاق أن يخرج الباحث من الغرفة التي يتواجد بها الطفل ويعود بعد برهة من الزمن، فإذا وجد الباحث الطفل محتفظًا بقطعة المارشميلو سيكافئه بقطعة ثانية، وإن أكلها الآن لن يحصل على الأخرى في المستقبل. وإن شعر الطفل بالملل يمكنه استخدام الجرس لاستدعاء الباحث، ولكنه لن يحصل على القطعة الإضافية.


كانت النتيجة أن الأطفال الذين صبروا لنيل قطعتي مارشميلو بدلًا من قطعة واحدة، أي مارسوا خاصية إرجاء الإشباع بدلًا من الإشباع اللحظي، كانوا أنجح في حياتهم الدراسية. وقد أجرى ميشيل وزملاؤه اختبارًا لدى المشاركين في التجربة بعد مرور أربعين عامًا، لقياس قوة الإرادة وضبط النفس لدى الأطفال بعد أن أصبحوا بالغين. وأشارت النتائج إلى أن الأطفال الذين تمتعوا بقوة إرادة عالية كانوا أكثر قدرة على ضبط النفس على مدار حياتهم، وحققوا مزيدًا من الإنجازات.


وبعد فحص أدمغة المشاركين بالرنين المغناطيسي، وجد الباحثون أن القادرين على ضبط النفس أظهروا نشاطًا أكبر في القشرة الدماغية الأمامية، تلك المنطقة من الدماغ المسؤولة عن التحكم في الاندفاعات، ونشطت منطقة الجسم المخطط الأمامي عند أولئك غير القادرين على التحكم بالنفس (المنطقة المسؤولة عن الرغبات ونظام المكافأة عليها).


ولكن تلك النتائج لا تشير إلى حتمية القدر بشأن هؤلاء الأطفال، فقد تجادل علماء النفس لعدة سنوات بشأن جدلية «الشخصية/الموقف»، إذ يرى بعض العلماء أن مفهوم الطبيعة الحتمية للشخصية التي ستستمر مع الطفل طوال حياته، مفهوم منقوص، والأرجح أن الشخصية تتفاعل مع الموقف الذي تُوضع فيه، وبإمكانها التعلم من المواقف وتحسين ملكاتها بضبط النفس وإرجاء الإشباع.


أنساق التفكير «الساخنة» و«الباردة»


أدت تجربة المارشميلو بميشيل وزملائه إلى صياغة نظرية عن أنساق التفكير، وقسموا إياها إلى نسق التفكير الساخن ونسق التفكير البارد. يعمل نظام التفكير البارد على المستوى الإدراكي، عن طريق التفكير بصورة أساسية، ويُبنى على سابق معرفة المرء ممزجًا إياها بالاحساسات والمشاعر والأفعال والأهداف. وعلى هذا فطبقًا لنسق التفكير البارد، ستتذكر به لماذا لا يجب عليك تناول المارشميلو الآن. أما نسق التفكير الساخن، فيعمل بصورة اندفاعية استجابةً لبعض المؤثرات دون تفكير في العواقب بعيدة المدى.


يأخذ النسق الساخن زمام الأمور عندما تفشل قوة الإرادة بأداء دورها، ما يؤدي إلى أفعال اندفاعية، ويميل هؤلاء الأشخاص إلى السلوكيات العاطفية دون تفكير عقلاني في السلوك. وجد ميشيل أن المراهقين الذين استطاعوا الانتظار لمدة أطول وقاوموا رغبة تناول المارشميلو عندما كانوا صغارًا، أحرزوا مزيدًا من الدرجات في الامتحانات الدراسية الأمريكية SAT، وتفوقوا من حيث القدرة على مواجهة التوتر، واستجابوا لصوت العقل، ورضي عنهم آباؤهم بصفة عامة.


 قدرة الإنسان على الاحتمال، ما مصدرها؟


المعنى الذي يمثله العائد


شجَّع تزايد البحث العلمي عن خاصية إرجاء الإشباع علماء السلوكيات بالبحث عن العوامل التي تؤثر على قدرة المرء على تأجيل حصوله على المتعة. يرى علماء السلوك أن قدرة المرء على تحمُّل العمل الشاق غير الممتع على المستوى القريب تتعزز بمدى ما يمثله الهدف أو العائد للفرد. فكلما مثّل العائد قيمة للفرد، تعززت قدرته على تحمُّل الصعاب.


يرى علماء السلوك أن القدرة على تأجيل المتعة مهارة تكيفية. فقد أظهرت الأبحاث المنشورة في دورية التحليل السلوكي التطبيقي Journal of Applied Behavioral Analysis أن تعلُّم المرء لإرجاء الإشباع وممارسته المستمرة له يدعم السلوك الاجتماعي الإيجابي. وظهر أن التلاميذ الذين يتعلمون تلك المهارة يؤدون بصورة أفضل في المهام المنوطة بهم، وأفضل من غيرهم على المستوى الاجتماعي.


نظرية الاحتمالية


تُعتبر النظرية الاحتمالية لمؤسسها دانيال كانمان إحدى أعمدة علم الاقتصاد السلوكي. تتناول النظرية سلوكيات الأفراد بشأن القرارات الاقتصادية، وتنص على أن الأفراد ربما يميلون إلى تجنب الخسائر الاقتصادية، ويقدمون ذلك على جلب المنافع إن كانت النفعة من نفس القيمة، ولكنهم قد يضحون بمبلغ ألف دولار مقابل احتمالية الحصول على عائد بقيمة ألفي دولار. وبالتالي، فإن الأفراد يميلون إلى اتخاذ القرارت بشأن المكاسب والخسائر تبعًا لطبيعة الموقف الذي وضعوا فيه.


وفي تجربة أجريت في عام 2011، عرض الباحثون على المشاركين اختبارًا يقترح عليهم الحصول على كمية من المال الآن، أو تأجيل المال لمدة شهر والحصول على عائد أكبر من المال. أظهرت نتائج البحث أن قرارات المشاركين اعتمدت على كمية المال المقدَّم في الحالتين، كما أظهرت اختلافات فردية بالغة في تصور الأفراد عن قيمة العائد المستقبلي وأثَّر ذلك على قرارهم.


مدة الانتظار


لعب الوقت المتاح أمام الأفراد للحصول على الجائزة بعيدة المدى دورًا في اتخاذهم لقرار الانتظار. أظهرت دراسة في عام 2001 أن المشاركين يعتبرون المدة الزمنية الطويلة التي تفصل بينهم وبين العائد علامة على عدم قيمته، وبالتالي إذا وصلت المدة إلى سنوات، قد يُفضِّل المشاركون العائد قصير المدى.


الخطوات العملية لتحقيق الأهداف بعيدة المدى


الترياق


يُشير مصطلح الترياق إلى مادة كيميائية فعّالة تزيل أثر السموم من الجسم. فإذا تسمم أحد المدمنين بالأفيون مثلًا، يعطيه الأطباء مادة نالوكسون Naloxone لتضاد مفعول المخدر الذي تناوله، وبالتالي تقلل من سميته. يمكن التفكير في كل عمليات الجسم الكيميائية بهذا الشكل. يعمل الدوبامين (هرمون المتعة والحافز للسلوكيات) في الدماغ من خلال الارتباط بمواد تُعرف بالمستقبلات (فكّر بها كالمفتاح والقفل). كلما زادت كمية هذا الدوبامين في الدماغ عن طريق الأنشطة «المثيرة»، مثل الإفراط في استخدام فيسبوك أو مشاهدة الأفلام الإباحية، يقل عدد المستقبلات الموجودة، في عملية طبيعية تُعرف باسم الضبط التخفيضي Downregulation. وكلما قل، أي ارتفع احتياج الجسم له، يصنِّع الجسم مستقبلات جديدة للاستفادة من الكمية المحدودة من الهرمون، وتُعرف تلك العملية بالضبط التزويدي Upregulation.


يكشف انخفاض عدد المستقبلات لهرمون الدوبامين عن نفسه عن طريق شعور التوتر والإحباط؛ لندرة عدد المستقبلات، لا يستطيع هرمون الدوبامين الموجود بالفعل من أداء وظيفته، والتي تشمل الشعور بالمتعة، والشعور بالتحفيز الضروري لقيام المرء بأي فعل. ونتيجةً لهذا الإحباط الدائم، لا يجد المرء أمامه سوى الأنشطة الضارة التي تحدثنا عنها من قبل لكي يرفع من كمية الدوبامين من جديد، وهكذا يدخل في حلقة مفرغة.


ولهذا، فإن الترياق اللازم لإعادة الدماغ للحالة الطبيعية، والتقليل من ملل الأنشطة الضرورية كالدراسة، المفيدة على المدى البعيد، يكمن في الصيام عن كل الأفعال التي تجلب المتعة على المدى القصير، أو التحكُّم في استخدامها دون الإفراط منها؛ حتى يستعيد الدماغ توازنه ويصنِّع العدد الطبيعي من المستقبلات بالكمية الطبيعية من الدوبامين.


صناعة العادات


تتلخص الخطوة الأولى في تحقيق الأهداف الكبيرة في صناعة العادات بشأن المهام الصغيرة التي تنتهي في آخر الطريق بتحقيق تلك الأهداف. فإذا أردت النجاح الدراسي، عليك بعادة المذاكرة يوميًا، وإذا أردت أن تكون مثقفًا، عليك ببناء عادة القراءة يوميًا. ولعل الكتاب الأشهر الذي تناول صناعة العادات هو كتاب قوة العادات للكاتب تشارليز دوهيغ المنشور في عام 2012. إذ وضَّح الكتاب الأساس العلمي لصناعة العادات، وتتلخَّص في ثلاث خطوات، وهي الإشارة والروتين والمكافأة. عندما ترى الهاتف مثلًا (الإشارة)، تهم لتصفُّح مواقع التواصل الاجتماعي، فتحصل على المكافأة وهي نشوة الدوبامين جرّاء الإعجابات التي حصلت عليها.


ولكن هذه النشوة تخفت سريعًا، وتترك المرء بشعور الندم على ضياع يومه وحياته. ولذلك، لتغيير تلك العادات وبناء عادات أخرى نافعة على المدى البعيد، على المرء أن يبدأ صغيرًا، فإذا أردت تكوين عادة المذاكرة، ربما تبدأ في الأسبوع الأول بساعة واحدة يوميًا، ثم تزيد تلك المدة تدريجيًا بمجرد شعورك بأن الساعة أصبحت لا تكفي، وأنك تشعر بالمتعة والراحة في عادتك الجديد.


استعمل قاعدة الدقيقتين


يوضح كتاب العادات الذرية للكاتب جيمس كلير أن الطريقة الأمثل لبناء العادات، تتمثل في ربطها بأنشطة سهلة القيام. فإذا أراد المرء القراء مثلًا، عليه أن يحول عبارة «أريد أن أقرأ» بعبارة «سأقرأ صفحة»، وبمجرد البدء في العمل المطلوب، ستستمر تلقائيًا فيه. تُبنى فكرة كلير على أن البداية هي أصعب مراحل الفعل، وبمجرد تجاوز تلك المرحلة بعادة سهلة، سيستغرق وقته المطلوب في الفعل.