وسائل التواصل الاجتماعي… وواقعية العلاقات الافتراضية

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/09/27
وسائل التواصل الاجتماعي… وواقعية العلاقات الافتراضية

بقلم/ بهاء العوام – مانشستر


استوقفني بحث نشرت نتائجه على صفحات أراجيك مؤخراً، يقول بأن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت حياة نحو 57% من مستخدميها الشباب في بلادنا العربية أكثر سعادة.


لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت مصدراً هامًا للمعلومات، كما أنها ألغت المسافات الجغرافية والزمانية ولمت شمل عائلات يتوزع أفرادها في مناطق مختلفة حول العالم، بالإضافة إلى أنها سهلت مزاولة الكثير من الأعمال ووفرت العديد من الخدمات التي يحتاجها الأفراد، ولكن هل هذه كل أسباب سعادة شبابنا في حياتهم الآن بالمقارنة مع مرحلة التواصل التقليدي؟


لا نبالغ أبداً إذا قلنا بأن جزءاً أساسياً من سعادة شبابنا في ظل التواصل العنكبوتي، يكمن في العلاقات الافتراضية التي صنعوها عبر حاضنات هذه التواصل مثل “فيسبوك” و”سكايب” و”واتساب” وغيرهم، ومهما حاول البعض التقليل من أهمية هذه العلاقات أو تسطيح حضورها في حياتنا، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أنها باتت بالنسبة للكثيرين أكثر واقعية من حياتهم الحقيقة التي عاشوها لسنوات وسنوات قبل ولادة التواصل الاجتماعي.


وسائل التواصل الاجتماعي… وواقعية العلاقات الافتراضية


إن العودة إلى نشأة الفكرة لا يساعد كثيرًا في فهم ذلك التغلغل التسونامي الذي حصده “فيسبوك” وإخوته في حياتنا، فهذه الوسائل استحدثت لتشجيع الأفراد في المجتمعات الغربية على تعزيز تواصل إنساني عفوي انحسر بينهم لأسباب عدة، في حين كانت مجتمعاتنا تفيض به إلى درجة كنا نشكو زخمه في كثير من الأحيان.


إذاً، ما الذي حدث؟ وكيف غزت كل هذه الوجوه والأشكال والرسومات والاختصارات حياتنا، حتى بتنا مدمنين عليها بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؟


لعل الفارق الرئيسي بين العلاقات الحقيقية ونظيرتها الافتراضية في عالمنا العربي، من حب وصداقة وتعارف واصطفاف أيديولوجي أو سياسي أو ديني، هو تحرر العلاقات الافتراضية من سلطات التقييد والتقليد والتحريم التي ترسم محددات وتجليات حياتنا في الواقع، فعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي لا سطوة للعيب أو الحرام أو الخوف أو المحسوبيات أو الاعتقالات أو السجن أو النفي أو الرجم أو غيرها من ضوابط حياتنا الحقيقة.


وسائل التواصل الاجتماعي… وواقعية العلاقات الافتراضية


 لا يحتاج الاستدلال على غياب السلطات الثلاثة في حياتنا الافتراضية الكثير من الجهد، فحذف صديق “واتسابي” أو معجب “فيسبوكي” لا يحتاج إلا لبضعة ثوان دون خجل أو خوف، ومهما علا سقف الغزل عبر شاشات “سكايب” أو “فايبر” فهو لا ينطوي على عيب ويبقى مقبولاً طالما أنه لا يُرى من أخ، أب، أم أو حتى زوج، حيث جعل التواصل الاجتماعي تعبير الخيانة فضفاض جداً أو على الأقل حصره في الفعل الجسدي فقط.


خلوات الحب على الفيسبوك لا تحتاج إلى محرم، وإعلان الوهابية أو الليبرالية والشيوعية أو حتى الكفر لا يحمل أي تبعات قانونية أو شرعية، صفحات الأزياء العالمية (الفاضحة) والمحطات الجنسية والفنون بكل أنواعها باتت خارج سيطرة الرقابة، إبداء الاستياء أو الإعجاب حول أي شيء أو أي شخص لا يتطلب إلا معرفة كيفية استخدام الحواسيب أو أجهزة الاتصال الذكية، حتى أنك لست مضطراً للإلمام بقواعد اللغة العربية الفصحى، فاللهجات المحلية أو الرموز والصور والرسومات بدائل متوافرة وتزداد شعبيتها يوماً بعد يوم.


ربما يرى البعض في الانعتاق من سلطات التقييد والتقليد والتحريم افتراضياً ظاهرة سلبية وجرت نتائج وخيمة على مجتمعاتنا المحافظة وغير المهيئة لكل هذا الكم من الانفتاح، وفي هذا السياق يستدعون الكثير من حالات الطلاق والشذوذ و(التدعوش) والإخفاق والفشل التي تسببت بها وسائل التواصل الاجتماعي. هم محقون طبعاً في ادعائهم، ولكن…


وسائل التواصل الاجتماعي… وواقعية العلاقات الافتراضية


بغض النظر عن الدور الإيجابي الذي لعبته وتلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في ثورات الربيع العربي، والذي لا يزال هو الأخر محط خلاف في تقديره وتقييمه، لابد من سؤال أنفسنا بشفافية، هل نحن بحاجة فعلاً إلى التحرر من هذه السلطات الثلاث؟ هل ممارسة تلك السلطات على مدار العقود الخمسة الماضية أفرز أجيال متوازنة ومنتجة؟ هل دوائر الخوف التي أحاطتنا بها تلك السلطات طوال تلك السنوات أبعدت عن مجتمعاتنا مظاهر التطرف والانحلال والفساد والفشل والضياع التي ندعي انتشارها بسبب هبوب رياح الـ “فيسبوك” على منطقتنا.


في جميع الحالات، لا بد من الاعتراف أن ما يقوم به الشباب العربي اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو ثورة افتراضية على تلك السلطات الثلاث، احتجاج إلكتروني فاضح على سطوتها التي وأدت أحلام الآباء وحَدَّت آمال الأبناء في أوطان صالحة للعيش وليس معتقلات كبيرة يشكل حلم الهجرة منها الهاجس الأول للشباب على اختلاف مشاربهم واهتماماتهم وانتماءاتهم، رفض صريح لحضور هذه السلطات في حياتنا بذات الطريقة التي اعتادت استنزافنا فيها.


في النهاية، لا تزال المعركة بين المؤيدين والمقاومين للسلطات الثلاث في بلادنا محصورة في وسائل التواصل الاجتماعي إلى حد بعيد، أو لنقل لم تنضج بعد إلى حدود تمكّنها من مغادرة الشبكة العنكبوتية إلى حياتنا الحقيقة بشوارعها ومؤسساتها وقوانينها وممارساتها، وهو ما يُفضل حدوثه بسرعة قبل أن يتحول معظمنا إلى بشر افتراضيين يعانون فصاماً بين الواقع والانترنت.