الإنتروبي.. أكثر من مجرد مقياس للفوضى!

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/24
الإنتروبي.. أكثر من مجرد مقياس للفوضى!

لا بدّ وأنّ قسماً كبيراً من الناس الذين سمعوا بالإنتروبي، قد سمعوا معها أيضاً مصطلحات كالعشوائية والفوضى و …إلخ. ولكن عندما يتم سؤالهم عن ماهية الإنتروبي، فقلة قليلة منهم تعلم ما هي فعلاً. فما هي الإنتروبي حقاً؟


إن الإنتروبي هي أحد أجمل وأهم المفاهيم في الفيزياء على الإطلاق، وهي تحمل من المعاني ما يفوق بكثير الأمور التي ذكرت أعلاه، وتختزن من العمق ما تعجز سلسلة مبسطة وغير أكاديمية من المقالات كهذه السلسلة عن إيصاله. إلا أنني، وعلى الرغم من ذلك، سأحاول أن آخذكم في رحلة قصيرة نلقي فيها معاً نظرة خاطفة على بعض جوانب الإنتروبي، علّني أوفق في أن أنقل لكم بعضاً من الجمال الأخاذ والعمق الكبير لهذا المفهوم، بطريقة مبسّطة قدر المستطاع!


محركات وبخار


تبدأ قصتنا في القرن التاسع عشر، مع المهندس الفرنسي سادي كارنو، الذي كان يحاول دراسة المحركات البخارية في أيامه كي يجيب على سؤالين هامين: أولاً، هل نستطيع تحويل كامل الحرارة التي نعطيها لمحرك بخاري إلى عمل مفيد (كتدوير دولاب مثلاً)؟ وثانياً، هل للمادة المستخدمة في المحرك، سواء بخار ماء أو هواء أو…إلخ تأثير على مردوده (أي كفاءته)؟


وقد وجد كارنو أن المحرك البخاري يعمل دائماً بين درجتي حرارة مختلفتين: درجة حرارة المحرك، ودرجة حرارة الوسط المحيط. وأن هذا الفرق بين درجات الحرارة هو ضرورة لعمل المحرك. وقد شبّه كارنو ذلك بدوران دولاب مائي: فكي نتمكن من تدوير الدولاب، على الماء أن يهبط من مكان مرتفع إلى مكان منخفض، وهبوطه هذا هو ما يدفع الدولاب للدوران. ولكن، ومهما كانت كمية الماء في خزان للمياه، فلن تتمكن من تدوير الدولاب ما لم يكن الماء جارياً.


https://static.arageek.com/wp-content/uploads/2020/01/اا.png


بنفس الطريقة تماماً، فإن ما يجعل المحرك البخاري يعمل ليست الحرارة بحد ذاتها، بل جريانها، وهذا الجريان يتطلب وجود فرق في درجات الحرارة.


الإنتروبي.. أكثر من مجرد مقياس للفوضى!


وكما أن الماء المتدفق نحو الخزان ذو الارتفاع المنخفض سيحمل معه طاقة لن يستفاد منها في تدوير الدولاب، كذلك الأمر في المحرك الحراري (أي الذي يحول الحرارة إلى عمل): إذ لا يمكن تحويل كامل الحرارة التي يتم إعطاؤها للمحرك إلى عمل، بل سيتم خسارة جزء منها وهي الحرارة التي ستتدفق باتجاه درجة الحرارة المنخفضة. وبهذا فقد حصل كارنو على جواب سؤاله الأول.


كما أن عمله قد قاده أيضاً للحصول على جوابٍ لسؤاله الثاني، وقد كان الجواب هو أن طبيعة المادة العاملة في المحرك، سواء بخار ماء أو هواء أو …إلخ ليس لها علاقة بمردوده، بل إن كل ما يتعلق به المردود هو نسبة درجتي الحرارة المنخفضة إلى المرتفعة واللتين يعمل بينهما المحرك.


العمليات العكوسة والعمليات اللاعكوسة


قبل أن نتابع، لا بد وأن نتحدث عن العمليات العكوسة والعمليات اللاعكوسة، ففهمها يكمن في قلب فهمنا للإنتروبي. نقول عن عملية أنها عكوسة، إذا أمكن لنا عكس اتجاهها في أي نقطة دون أن نغير شيئاً. مثلاً، لنقوم برفع حجر عن الأرض بشكل عكوس، لا بد لنا من أن نطبق عليه قوةً تساوي ثقله تماماً بحيث تكون محصلة القوى عليه معدومة في كل لحظة.


عندئذٍ، لو قمنا برفعه لارتفاع معين ثم أعدناه للمكان الذي انطلقنا منه، سيكون الحجر ووسطه المحيط في نفس الحالة في نقطة معينة من المسار سواء في حالة الصعود أو الهبوط، وهذا الكلام صحيح من أجل أي نقطة في المسار. إلا أن ما سبق يعني أن الحجر في كامل مساره سيكون في حالات متتالية من السكون، وذلك يتطلب كي يحدث زمناً لانهائياً، مما يجعل العمليات العكوسة عمليات مثالية غير موجودة في الواقع (على الأقل وفق ما هو متفق عليه حتى الآن).


وما نفعله في الواقع كي نرفع الحجر في زمنٍ منتهٍ، هو أننا نطبق لدى رفع الحجر قوةً أكبر من ثقله جاعلين محصلة القوى للأعلى. ثم لو تركناه من يدنا كي يسقط، فعندما يصل لنفس النقطة في هبوطه، ستكون عندها محصلة القوى باتجاه الأسفل، ولن يكون في نفس الحالة. وهذا النوع من العمليات يدعى بالعمليات اللاعكوسة، وهي العمليات التي تحصل في الواقع.


والآن، بعد أن بتنا نعرف الفرق بين صنفي العمليات، بات بإمكاننا المتابعة.


ظواهر لا يفسرها قانون انحفاظ الطاقة


لقد بنى الفيزيائي الألماني رودولف كلاوزيوس على عمل كارنو السابق لمحاولة فهم ما يحدث، وقد كان كلاوزيوس أول من استعمل مصطلح الإنتروبي، وكان له النصيب الأكبر في أول فهم لها.


ولنفهم خلاصة عمل كلاوزيوس دعونا نفكر في بعض الظواهر الطبيعية من حولنا. إننا نلاحظ في حياتنا اليومية أن الحرارة دائماً تنتقل من الجسم الساخن إلى الجسم البارد حتى يصلا لحالة التوازن الحراري (أي تصبح لهما نفس درجة الحرارة). مثلاً لو وضع أحدنا قطعة جليد على كفه فستبدأ بالذوبان. مما يعني أن الحرارة انتقلت من كف اليد إلى قطعة الجليد. ولكن، لماذا لا تنتقل الحرارة من قطعة الجليد لكف الشخص، فتبرد القطعة أكثر، بينما ترتفع درجة حرارة الكف أكثر؟ هذه العملية لن تخرق قانون انحفاظ الطاقة لو أن كمية الحرارة التي خسرها الجليد، هي نفسها الكمية من الحرارة التي امتصتها الكف، فلماذا لا تحصل؟


يبدو من المثال السابق، أن هناك في القصة ما هو أكثر من انحفاظ الطاقة، وأن الطبيعة تفضل اتجاهاً معيناً لحدوث العمليات الطبيعية. فما الذي يجري؟ لقد توصل كلاوزيوس من خلال عمله إلى أن هناك كمية فيزيائية تميز الجمل الفيزيائية دعاها بالإنتروبي، تسعى دائماً للتزايد في الجمل المعزولة (أي التي لا تتبادل مادة أو طاقة مع محيطها)، وأنها تأخذ قيمة عظمى عندما تصل الجملة إلى حالة التوازن (كأن يكون لدينا مثلاً غاز له درجة حرارة وضغط وتركيب كيميائي واحد عبر كل أجزائه).


وبالتالي فإن انتقال الحرارة تلقائياً من الجسم البارد إلى الجسم الساخن يصاحبها تناقص في الإنتروبي، ولذلك لا تحدث في الطبيعة، في حين أن العملية المعاكسة تكون مصحوبة بتزايد في الإنتروبي وهو ما يجعلها ممكنة. وقد دعي مبدأ تزايد الإنتروبي هذا بالقانون الثاني في الترموديناميك (في حين أن مبدأ انحفاظ الطاقة يدعى بالقانون الأول في الترموديناميك). وقد بين كلاوزيوس أن الحالة الوحيدة التي لا تتغير فيها الإنتروبي هي حالة التحولات العكوسة. ومحرك كارنو يمثل محركاً عكوساً لا يصاحب عمله تغير في الإنتروبي. أما المحركات الحقيقية فهي محركات لا عكوسة وبالتالي تعمل دائماً على زيادة الإنتروبي.


الإنتروبي كمقياس لتجانس توزع الطاقة


لقد رأينا أن محرك كارنو هو محرك عكوس، وأنه لا يسبب تزايداً في الإنتروبي. إلا أن المحركات الحقيقية هي محركات لا عكوسة، تسبب زيادة في الإنتروبي من خلال الحرارة التي تضيع نتيجة للاحتكاك مثلاً، مما يجعل هذه المحركات تفقد من الطاقة أكبر مما يفقد محرك كارنو. وفي الواقع، فإن أكبر مردود ممكن لمحرك حراري نظرياً هو مردود محرك كارنو (الذي لا يصل إلى 100% نتيجة ذهاب قسم من الطاقة نحو الوسط ذو درجة الحرارة الأخفض كما رأينا)، وبالتالي فكلما اقترب المحرك من محرك كارنو، أي كلما قلل من زيادته للإنتروبي، كلما كان مردوده أفضل.


ولقد رأينا أنه كلما كان الفرق بين درجتي الحرارة المنخفضة والعالية اللتان يعمل بينهما المحرك الحراري أكبر، كلما كان مردوده أعلى. ولكن حالة اللاتجانس في درجات الحرارة هي حالة منخفضة الإنتروبي، إذ أننا كنا قد رأينا أن الحالة ذات الإنتروبي العظمى هي حالة التوازن حيث تصبح لجميع أجزاء الجملة نفس درجة الحرارة، وفي هذه الحالة تكون الطاقة موزعة بشكل متجانس في الجملة.


مما سبق نجد أنه كلما كان توزع الطاقة غير متجانس في الجملة (أي حالة إنتروبي منخفضة)، كأن يكون الفرق بين درجتي الحرارة أكبر في حالة المحرك الحراري، كلما أمكن للمحرك أن يعمل بشكل أفضل وكانت هذه الطاقة مفيدة لنا. وبالتالي نجد هنا أن الإنتروبي تزودنا بطريقة للحكم على مدى جودة الطاقة التي لدينا (تكون ذات جودة أعلى كلما قل تجانسها).


خاتمة


بعد كل ذلك، لا بد لنا وأن نسأل السؤال الهام التالي: ترى ما هي طبيعة الإنتروبي فعلاً، أي ما هو منشؤها؟ وما هو سبب خضوع الطبيعة في الأساس لقانونٍ كالقانون الثاني في الترموديناميك؟


في الواقع سنرى في المرة المقبلة، أن الإجابة على هذا السؤال كشفت لنا مستوىً آخر جديداً من الفهم للكون، وتبين أن المحركات الحرارية التي قد تبدو لأول وهلة أنها لا تعدو كونها مجرد آلات صنعناها لتفيدنا في حياتنا اليومية، كانت تخبئ بعض أعمق وأهم الحقائق عن الكون!