الحياة من حولنا تحمل الكثير من المواقف التي قد تجعل ردود الفعل متباينة بشدة. هناك ردود فعل إيجابية، وأخرى سلبية، هذا طبيعي. لكن مهلًا، ما معيار السلب والإيجاب في الأصل؟ على أي أساس يستطيع المرء تحديد الصواب والخطأ من بعضهما البعض؟ بينما المجتمع نفسه متغير باستمرار ولا توجد قاعدة ثابتة للوصول إلى نتيجة نهائية؟
اليوم سوف نتحدث عن مفهوم الصواب والخطأ في عالم دائم التغيُّر، ولماذا لا يجب علينا الاستناد إلى أحكام الأيدولوجيات بشكلٍ عام، وضعية كانت أو لاهوتية.
*تنويه: هذا المقال مجرد وجهة نظر شخصية للحياة من حول الكاتب، والنصوص المذكورة هنا ليس من الإلزامي الإذعان لها أو الإيمان بها*
لماذا أخذ مفهوم الصواب والخطأ من الأيديولوجيات قطعيًّا، خطأ في حد ذاته؟
هنا لن أقول لك أن الإذعان لأيديولوجيات الآخرين هو بمثابة تخلي عن قيمتك كشخص يحمل بداخله عقلًا يستطيع أن يفكر، وأن ذلك عبارة عن تحقير من قدرتك على صياغة آراء شخصية، هذا كله مهروس، معروف، ومُكرر. لكن الذي سأقوله لك هو أن الأيديولوجيات في حد ذاتها متغيرة، ولا يمكن أن تكون معيارًا حقيقيًّا للحكم. ولفهم الأمر أكثر، دعونا نعمل على محاولة فهم كلمة (أيديولوجيا) بشكلٍ أفضل.
الأيديولوجيا هي عبارة عن مجموعة مبادئ يطبقها الفرد في حياته، بطريقة تتقاطع مع حياة الآخرين من حوله بنفس المجتمع. لذلك الأيديولوجيات ليست فقط مجموعة أفكار، بل هي أيضًا التجسيد الواقعي لتلك الأفكار. لكن قبل الحديث عن الصواب والخطأ في تلك الأفكار، لنضرب مثالًا بسيطًا. لنفترض الآن أنك وصديقك جالسان على المقهى (قبل وقت كورونا بالطبع)، وفجأة قررتما طلب مشروب آخر، وقال صديقك على الفور: “اثنان عصير مانجو من فضلك”.
لكن مهلًا، أنت لا تحب المانجو من الأساس. وهنا يبرر صديقك الأمر بأنه سوف يدفع لك، وأن عصير المانجو هو مشروبه المفضل. هنا أيديولوجيته هي حب المانجو، وشرب عصيرها. أي أنها مكونة من شقين: حب الشيء، والتعبير عن ذلك الحب من خلال الشرب. حتى الآن كل شيء سلمي، أليس كذلك؟ لكن مهلًا، عند فرض شرب المانجو عليك، هنا تحوَّل تطبيق المبدأ من شيء إيجابي إلى سلبي، لأنه بذلك تعدى على حريتك في عدم حب المانجو، وبالتالي شرب عصيرها. وعندما تعترض على ما فعل، يرتفع صوته فجأة، ويقوم بإشهاد كل روّاد المقهى، وعلى الفور يذعنون جميعهم أن المانجو عظيمة للغاية، وأنك مُخطئ بعدم حبك لها.
هنا لنا وقفة يا عزيزي. لا يجب بأي حال من الأحوال الإذعان لأمرٍ ما لمجرد أن هناك أعدادًا كبيرة مؤمنة به، أو لأن شخصًا عزيزًا عليك مؤمن به. وكلامي ليس دعوة للسباحة عكس التيار، بل هو دعوة للتفكير في (منطقية) التيار نفسه ككل.
وهذا ينقلنا إلى الفقرة التي سنحدد فيها الآلية الاستنادية الحقيقية لمفهوم الصواب والخطأ بشكلٍ أكثر دقة.
منطق الحب؛ ربما؟
المنطق ببساطة هو محاولة الاستدلال على الأشياء من حولنا، عبر إعمال الآلية العلمية في التفكير. لكن هذا كلام الكتب الأكاديمية، والفلاسفة ذوي العقد النفسية يا عزيزي، فما هو المنطق الواقعي الذي يجب أن تستند إليه في حياتك؟
المنطق الواقعي هو: ضع نفسك في محل الآخر، وقِس مدى إنسانية رد فعلك.
لربط ذلك المفهوم بالحياة التي نعيشها كل يوم، لنتحدث عن الأقليات المجتمعية، بدون تحديد أقلية بعينها منعًا لإثارة حفيظة البعض. الأقليات في المجتمعات العربية دائمًا ما تُعامل بطريقة غير إنسانية بالمرة. حتى الأقليات التي يدعمها الإعلام ظاهريًّا، أهل البلد يتنمرون عليهم باطنيًّا. لذلك يجب أن نطرح سؤالًا: هل ما يحدث للأقليات، صحيح؟ للإجابة على هذا السؤال، لنفترض أنك الآن المتنمر على صديقك الذي يكون أحد أفراد أقلية معينة. الآن ضع نفسك في محله، وانظر إلى نفسك، هل سترضى بتنمرك عليك كفرد ينتمي إلى أقلية مهمشة؟ بالطبع لا.
وهذا بدوره ينقلنا لطرح سؤال آخر أهم من سابقه: لماذا لا يرى المتنمر أنه متنمر؟
هذا يرجع لكون مبادئ أيديولوجيته تتضمن أن التنمر في حد ذاته ليس تنمرًا، بل فعل (نبذ) طبيعي تجاه أفراد الأقليات. حيث يتم تبرير ذلك التنمر بفكرة الثواب والعقاب. إذا تنمرت على فلان، أخذت جائزة، وإذا لم تتنمر، سُلبت منك جوائز كنت لتأخذها إذا تنمرت.
وبالمناسبة، الأمر ينطبق على أي أيديولوجيا؛ وضعية كانت أو لاهوتية. لذلك إذا أردنا معرفة الصواب والخطأ في تلك الأيديولوجيا، يجب وضع الذات في محل الطرف الآخر، وقياس الأمر بالعاطفية الإنسانية التي بدورها تدعم المنطق الإنساني وآلية التفكير العلمي ككل، وليس بمبدأ الثواب والعقاب والارتباط الشرطي. نحن لسنا كلابًا يسيل لعابها عند سماع صوت الجرس قبل جلب الطعام.
والآن، راجع نفسك
قل لي، كم من تريند ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي بالفترة الأخيرة، وتفاعلت معه بطريقة غير إنسانية؟
في أسبوع واحد فقط، يمكن للميديا أن تُقدم لك عشرات العشرات من القضايا الإنسانية، بينما أيديولوجيا القطيع تُجبرك على التعامل معها بطريقة غير آدمية، طمعًا في جائزة كُبرى من شخصٍ ما أو كيانٍ ما. إذا نظرت للأمر بدقة، ستجد أن كل أفعالك في الحياة تقوم بها لإرضاء الآخرين. ربما تريد أن ترضي الإله، وربما تريد أن ترضي أصدقاءك كي لا تقعد ملومًا محسورًا، تتجرع غصص الوحدة دون أن يهتم لأمرك أحد.
لكن لا، انظر لنفسك وقيِّم أفعالك، لا تنجرف خلف الوعود الزائفة للأيديولوجيات، قِس كل شيء بالمنطق الإنساني والعاطفة الإنسانية. كن إنسانًا قبل أن تكون فردًا في حزب، وطن، أو حتى دين.
وتذكر: الصواب والخطأ يعتمدان على الإنسانية، ولا شيء سواها.