الهجرة في سبيل الله
تُعرَّف الهجرة في اللغة بأنّها: تَرك مكان مُعيَّن، والانتقال إلى مكان آخر،
- دليل على صِدق الإيمان.
- تعويض الله للمهاجرين على ما تركوه لأجله؛ وذلك بالأجر العظيم، والسعة في الرزق.
- تحقيق الرحمة، والمغفرة، وما يتبعُها من دخول الجنّة.
- وللهجرة نوعان يختلفان باختلاف تقسيم العلماء، فالهجرة:
[3]
- معنويّة: وتكون بتَرك كلّ ما نهى الله -تعالى- عنه من الكفر، والمعاصي، وهي واجبة على كلّ مسلم، ومسلمة.
- حسّية: ويختلف حُكمها باختلاف الحال؛ فمنها ما يكون واجباً على الجميع، ومنها ما يكون واجباً إلّا أنّ أصحابها معذورون، ومنها ما يكون مُستحَبّاً، ومنها ما يكون تركه أَولى.
مراحل الهجرة إلى الحبشة
الهجرة الأولى إلى الحبشة
بعد أنْ اشتدّ أذى مشركي قريش على المسلمين في مكة أشار عليهم النبي -عليه السلام- بالهجرة فراراً بدين الله -تعالى- وحماية لأنفسهم من بطش المشركين، واختار لهم أرض الحبشة، لأنّ فيها ملكاً عادلاً، لا يقبل الظلم على أحد، وكانت هذه الهجرة أول هجرة من مكة، وكانت في السنة الخامسة من البعثة، وبلغ عدد المهاجرين عشرة رجال وأربع نسوة، وكان منهم: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقيّة بنت رسول الله عليه السلام، وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون -رضي الله عنهم-، وغيرهم،
الهجرة الثانية إلى الحبشة
رجّح بعض المحققين المعاصرين أنّ أحداث الهجرة الثانية إلى الحبشة كانت في أواخر العام العاشر وبداية العام الحادي عشر من البعثة،
موقف قريش من هجرة المسلمين إلى الحبشة
لمّا أحسّت قريش أنّ وضع المسلمين يصير إلى الطمأنينة والاستقرار في الحبشة، تشاوروا فيما بينهم، واتّفقوا على إرسال شابَّين منهم إلى النجاشيّ؛ كي يطردهم، ويعيدهم إلى مكّة، وجمعوا الكثير من الهدايا، وأرسلوها إليه مع عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، ولم تقتصر الهدايا عليه فقط، بل شَمِلت حاشيته أيضاً، فلم يبقَ أحد إلّا وأهدوه هدية، وحرّضوهم ضدّ من قَدِموا إليهم من مكّة، وأوصوهم بأن يُشيروا على ملكهم بتسليم أهل مكّة إليهم، فوافقوا على ذلك، ثمّ ذهبوا إلى النجاشيّ، وقدّموا له الهدايا الخاصّة به، وقالوا له: "إنّه قد لجأ إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه".
أيّد قوم النجاشيّ رسولَي قريش في كلامهما، فما كان من النجاشيّ إلّا أن رفض ما طلبوه، وأخبرهم أنّه لن يُسلمهم إليهم حتى يأتي بهم، ويسألهم عمّا قالاه فيهم، فإن قالوا إنّه صحيح سلّمهم إليهما، وإلّا فلا، فلمّا أحضرهم وسألهم، تكلّم منهم جعفر بن أبي طالب، وأخبره بما كانوا عليه في الجاهلية من الفسوق، والعصيان، وما هم عليه الآن من توحيد الله، والصدق، والأمانة، وحُسن الجوار، وما تعرّضوا له من تعذيب قريش؛ كي يرتدّوا إلى عبادة الأصنام، وقال له إنّهم اختاروه على من سواه؛ طمعاً فيما عنده من العدل، وحُسن الجوار، فطلب منه النجاشيّ أن يقرأ عليه بعضاً ممّا أُنزِل على نبيّه، فقرأ عليه بعضاً من فواتح سورة مريم، فبكى حتى ابتلّت لحيته، وبكى معه قومه، وأخبر القرشيَّين أنّه لن يُسلّمهم إليهما أبداً.
توعّد عمرو بن العاص للمسلمين، فذهب في اليوم التالي وأخبر النجاشيّ أنّ المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، وطلب منه أن يسألهم عن شأنهم فيه، فلمّا سألهم أخبره جعفر بأنّ عيسى بن مريم هو عبدالله ورسوله وروحه، فوافقهم النجاشيّ على ذلك، وأعطاهم الأمان، وأعاد إلى القرشيَّين هداياهما، فخرجا من عنده خائبَين، وعاش المسلمون في بلاد النجاشيّ آمنين مُطمئنِّين.
للمزيد من التفاصيل عن ثبات النبي -صلى الله عليه وسلّم- في حياته الاطّلاع على المقالات الآتية:
عودة المسلمين من الحبشة
طالت مدة إقامة المسلمين في الحبشة بعد الهجرة الثانية، حيث ظلّوا هناك إلى ما بعد غزوة خيبر، ولم تكن إقامتهم برغبة منهم، وإنّما بأمر من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ومن الأحداث التي حصلت أثناء وجودهم في الحبشة: الهجرة النبوية إلى المدينة المُنوَّرة، وتأسيس الدولة الإسلاميّة، وعلى الرغم من احتياج النبيّ إليهم؛ لأنّ عددهم كان كبيراً، إلّا أنّه لم يطلب منهم العودة، كما وقع الكثير من الغزوات العظيمة، كبَدر، وأحد، وبني قينقاع، وبني النضير، وصلح الحديبية الذي كان حدثاً مهماً في مسيرة الدعوة الإسلاميّة، والذي به أشعرَ المسلمين بوجودهم، ولمّا أحسّ رسول الله بثبات دولته بعث عمرو بن أمية إلى المهاجرين في الحبشة؛ كي يطلب منهم العودة،
أسباب الهجرة إلى الحبشة
بعد مرور ما يُقارب الخمس سنوات من الدعوة السرّية، وبَذل قريش ما بوسعها؛ من أجل إيقاف هذه الدعوة، والوقوف في طريقها، ومع ثبات رسول الله وأصحابه، بدأت قريش تنهال على المسلمين بكلّ ما تملكه؛ بهدف تعذيبهم، وما كان منهم إلّا أن صبروا على هذا العذاب، إلّا أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان مُحاطاً بحماية من قومه، وعمّه أبي طالب، فلم يصل إليه ما وصل أصحابَه من العذاب، ولم يكن يملك حمايتهم ممّا هم فيه، ثمّ بتفكير من رسول الله، وتأييد من الوحي، جاء الإذن بالهجرة من مكّة؛ لتكون فترة يستريح بها الصحابة ممّا هم فيه، ويكملوا مسيرتهم في نَشر الإسلام، قال -تعالى-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)،
وقد كان المسلمون آمنين في ظلّ النجاشي، أمّا ما تحقّق من نتائج لهذه الهجرة فهو ما كان إلّا دليلاً على حِنكة رسول الله، وحِكمته في تدبير شؤون قومه، ويمكن إجمال أسباب الهجرة بعدّة أمور، منها:
- الابتعاد عن الظلم الذي كانوا يعانون منه.
- تجنُّب الوقوع في الردّة.
- تنشيط الحركة التجارية، والعمل بالتجارة.
- تأمين المساعدة في المجال العسكريّ من قِبل الأحباش.
ولم تقتصر الهجرة على المُستضعفين، والفقراء الذين كانوا في مكّة، بل كان أكثرهم ممّن لهم المال، والحماية، والقوة فيها، كعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وهذا من أهمّ الأدلّة على أنّ السبب الرئيسيّ للهجرة لم يكن ضعف المسلمين، وتعرُّضهم للأذى من قِبل قريش فقط، وإنّما كانت هناك أسباب أخرى دفعتهم إلى ذلك، وقد عدّ رسول الله الهجرة إلى الحبشة بمثابة الهجرة إلى المدينة، وفيما يلي بيان للأسباب التي دفعت النبيّ إلى السماح لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة:
- بدء نفاد صبر المسلمين؛ بسبب اشتداد تعذيب قريش لهم حتى وصل بهم الأمر إلى أن سألوا الرسول عن موعد نصر الله، فخاف رسول الله على دينهم، وأنفسهم.
- الحفاظ على الدعوة من الانهيار، والضياع بعدما ازداد عدد الداخلين في الإسلام، والخوف من تكوين قريش قوة ضدّهم، وذلك عند شعورها بالخطر منهم، وقد يكون ذلك بتأييد من العرب لقريش.
- الدور المهمّ الذي قد تلعبه رابطة القرابة، والرحم في تلطُّف القرشيّين بالمسلمين، والتوقُّف عن إيذائهم، وربّما الدخول في الإسلام، على الرغم من أنّ منهم أيضاً من كانت له ردّة فِعل عكسيّة، فازدادوا إيذاءً للمسلمين.
سبب اختيار النبي للحبشة
أمّا في ما يتعلَّق بسبب اختيار الرسول للحبشة حتى تكون المكان الأول الذي يهاجر إليه المسلمون، ففيه عدّة أمور، منها: فراغ أرض الحبشة من القبائل العربيّة؛ فعدم وجود القبائل فيها يُغلق الباب أمام قريش للتحالُف معها، وتكوين قوة ضدّ المسلمين، كما أنّ ملك الحبشة وهو النجاشيّ كان معروفاً بعَدله؛ نتيجة عِلمه بالتوراة، والإنجيل، وقد عَرف أهل مكة عنه ذلك؛ بسبب حركة التجارة المُتبادلة فيما بينهم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما أشار عليهم بالهجرة للحبشة: (إنَّ بأرضِ الحَبَشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عندَه؛ فالحَقوا ببِلادِه حتى يَجعَلَ اللهُ لكم فَرَجًا ومَخرجًا. فخرَجْنا إليه أرسالًا، حتى اجتَمَعْنا، فنزَلْنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أمِنَّا على دِينِنا)،
نتائج الهجرة وفضل المهاجرين إلى الحبشة
كانت الهجرة إلى الحبشة بمثابة حركة فتحت الآفاق للمستقبل أمام الدعوة الإسلامية، وخروجها من نطاق المدينة المنورة؛ فالداعية الذكيّ لا يحدّ دعوته زمان ولا مكان، وإن لم يستجب له المَدعُوّون، فإنّه يُغيِّر مكان دعوته، ولا يتوقّف عنها، كما ساعدت الهجرة المسلمين في الثبات على دينهم، ليس ذلك وحسب، بل ساعدتهم أيضاً على نشر الإسلام في مكان غير مكّة المُكرَّمة.
وللصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة منزلة عظيمة عند الله -تعالى-، ويتّضح ذلك من خلال حوار أسماء بنت عميس؛ وهي من المهاجرات إلى الحبشة، وبين عمر بن الخطّاب حين كانت زائرة عند حفصة بنت عمر، فدخل عمر عليهما، ولمّا عرف أنّها أسماء، قال لها إنّهم أحقّ برسول الله من الذين هاجروا إلى الحبشة، فغضبت وقالت: (كذَبْتَ يا عُمَرُ كَلَّا، وَاللَّهِ كُنْتُمْ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا في دَارِ، أَوْ في أَرْضِ البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ في الحَبَشَةِ، وَذلكَ في اللهِ وفي رَسولِهِ)،
للمزيد من التفاصيل عن مراحل الدعوة الإسلامية وحياة النبي -صلى الله عليه وسلّم- الاطّلاع على المقالات الآتية:
المراجع
- 1 - تعريف و معنى الهجرة في معجم المعاني الجامع , www.almaany.com , 12-7-2020. بتصرّف. .
- 2 - سورة العنكبوت، آية: 56. .
- 3 - مهران عثمان ، " الهجرة " , www.saaid.net , مهران عثمان ، .
- 4 - محمد الخضري (1425)، <i> " كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين " , (الطبعة الثانية)، دار الفيحاء: دمشق، صفحة 51 , محمد الخضري (1425)، .
- 5 - رمضان البوطي (1426 هـ )، <i> " كتاب فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة " , (الطبعة الخامسة والعشرون)، دار الفكر: دمشق، صفحة 91 , رمضان البوطي (1426 هـ )، .
- 6 - موسى بن راشد العازمي (1432 هـ - 2011 م)، <i> " كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون " , (الطبعة الأولى)، المكتبة العامرية للإعلان والطباعة وا , موسى بن راشد العازمي (1432 هـ .
- 7 - أ.د. راغب السرجاني (21-4-2010)، " مكة وأحداث ما بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة " , www.islamstory.com , أ.د. راغب السرجاني (21-4-2010)، .
- 8 - أ.د. راغب السرجاني (12-2-2017)، " توقيت هجرة الحبشة الثانية بالأدلة " , www.islamstory.com , أ.د. راغب السرجاني (12-2-2017)، .
- 9 - محمد الخضري (1425 )، <i> " كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين " , (الطبعة الثانية)، دار الفيحاء: دمشق، صفحة 55 , محمد الخضري (1425 )، .
- 10 - موسى بن راشد العازمي (1432 هـ - 2011 م)، <i> " كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون " , (الطبعة الأولى)، المكتبة العامرية للإعلان والطباعة وا , موسى بن راشد العازمي (1432 هـ .
- 11 - أكرم العمري، <i> " السِّيرةُ النَّبَويَّةُ الصَّحيْحَةُ مُحَاوَلَةٌ لِتَطبِيْقِ قَوَاعِدِ المُحَدِّثيْنَ فِيْ نَقْدِ روَايَاتِ السِّيْرَةِ النَّبَويَّةِ " , ، المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم ، صفحة 172-176 , أكرم العمري، .
- 12 - عبد السلام هارون، <i> " تهذيب سيرة ابن هشام " , ، بيروت: مؤسسة الرسالة، صفحة 72-77 , عبد السلام هارون، .
- 13 - راغب السرجاني ، <i> " السيرة النبوية " , ، صفحة 5 , راغب السرجاني ، .
- 14 - سورة العنكبوت ، آية: 56. .
- 15 - عاتق البلادي ، <i> " معجم الْمَعَالِمِ الْجُغْرَافِيَّةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ " , (الطبعة الأولى)، مكة المكرمة: دار مكة ، صفحة 91 , عاتق البلادي ، .
- 18 - رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج سير أعلام النبلاء، عن أم سلمة، الصفحة أو الرقم: 1/208، سنده صحيح. .
- 19 - سورة المائدة، آية: 82. .
- 20 - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، <i> " الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية " , ، صفحة 223-224 , مجلة الجامعة الإسلامية بال .
- 21 - راغب السرجاني (21-4-2010)، " الهجرة الأولى إلى الحبشة " , www.islamstory.com , راغب السرجاني (21-4-2010)، .
- 22 - إسلام ويب (25-12-2011)، " الهجرة إلى الحبشة دروس وعبر " , www.islamweb.net , إسلام ويب (25-12-2011)، .
- 23 - رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري ، الصفحة أو الرقم: 2503 ، صحيح. .