الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟

لا تمطر السماء ذهبًا ولا فضة، ولا نقود بالمحصلة، واليوم أكثر من أي وقت مضى ربما تُختَزل قيمتنا بعملنا (لا بطبيعته نعني وإنما بوجوده أصلًا). لكن ها أنت اليوم وبعد سعي وجهد جهيد؛ وجدت الوظيفة التي تقيك عار البطالة وطلب مصروفك اليومي من أحدهم، أو أن تنتظر معونةً حكومية.


وتمضي الأيام، إنك تعمل ولا بأس بذلك. لكن مع الوقت يبدو أن ثمة أمر غريب، فأنت لا تشعر بالرضا (ولا مدراؤك ربما). يستمر الأمر إلى أن تصل إلى نفق مسدود بجدار مصمت، لا ترى نفسك أي بريق نور منه، إنه سؤال يبدو وكأنه كان يؤرقك متواريًا تحت شتى الأعذار، سؤال لا يرحم، وكتأثير الدومينو: مع هذا السؤال هناك عشرات الأسئلة والاحتمالات.


هكذا؛ وبعد مقدمات ربما لا تفي بغرض وصف تلك التي تسبق سؤالنا التالي: هل حان الوقت لأغادر هذا العمل؟ وبعدها: لماذا؟ وماذا سأفعل؟ أليست أفضل من البطالة؟


أرجوك لا تفعل، فقد حان الرحيل حقًا، وهنا في الأسطر التالية سنساعدك على معرفة موعد هذا الرحيل، وكن على ثقة أنك لن تأسف بعد ذلك. نعم، ستمضي زمنًا تبحث عن عمل جديد، لكن قد تخبر الآخرين بعد حين: أنك فعلت الصواب حقًا، وأن قرارك كان (فرضًا) وليس (ترفًا).


الوظيفة المأسوف عليها: عوامل وأسباب


الوظيفة أصبحت مجرد عبء


أسوأ شيء يمكن أن يصيب أي إنسان هو الإحساس أن حياته كلها روتينية، وما هي إلا أعباء فوق أعباء، وما هو إلا حيوانًا يدفع طاحونة في عصر ما قبل الكهرباء.


قبل الحديث عن الوظيفة الروتينية، لنتحدث عن الجدول اليومي لحياة الموظف الناقم على عمله: تستيقظ في الصباح على صوت المنبه، وتريد أن تصفعه ألف صفعة وصفعة كي يتركك في سلام؛ لكن في النهاية تستسلم للأمر الواقع وتستيقظ وأنت عابس وتريد ركل أي شخص يقول لك صباح الخير حتى. ثم تذهب للمرحاض مقدمًا قدمًا، ومؤخرًا للأخرى، لتستحم في ملل، أو تترك نفسك هكذا وترتدي ملابس أمس للذهاب للعمل الذي لا يهتم فيه أحد بك على كل حال. تستقل الحافلة، وفي الأغلب تتعارك مع السائق الذي يقول لك بملل: لا توجد فكة يا أستاذ. لتهبط في النهاية وأنت تسب وتلعن ربّ العمل، العمل نفسه، واليوم الذي أتيت فيه لهذا الجحيم.


الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟


لتصل في النهاية إلى العمل -الذي يكون في العادة غير مكيف- لتتصبب عرقًا أثناء ذهابك لتسجيل حضورك لدى موظف الدفاتر. ليرمقك الأخير بنظرة استحقار واضحة، ويقول: تأخرت يا سيد مدحت، وقِّع في خانة التأخير إذا سمحت. وقتها ستلعنه وتبصق في الأرض وتخرج لتقابل المدير في وجهك، ليحملك بعشرات الدفاتر ويطلب الانتهاء منها خلال ساعتين قبل أن يأتي الذي سيأخذها إلى الأرشيف. ثم يضبط المدير ربطة عنقه، ويرسم ابتسامة صفراء على وجهه، ليرحل في النهاية للجلوس بمكتبه المكيف.


الآن ستعمل في صمت، رتابة، ملل، ضيق، عرق، أملاح، أفكار متلاطمة، وستنقر عقلك الخواطر الانتحارية مع الوقت.


بيئة العمل غير مريحة


لا يوجد شيء في الحياة أفضل من بيئة عمل مريحة فعلًا. الوظيفة الجيدة تعني بيئة جيدة للتعامل مع الآخرين من جهة، ومع المهام الوظيفية من جهة أخرى. فمثلًا إذا كان العمل مقترنًا بالمبيعات في شركة ضخمة، يجب أن تكون معاملاتك مع مسؤول الموارد البشرية – HR جيدة، حيث أنه يقوم باستقبال أو تسريح الموظفين باستمرار، وبناء عليه يتواصل معك لتحديد راتب كل فرد بناءً على ملفه الوظيفي. فإذا كنت تكره هذا الشخص، ستقوم بإبخاس ثمن أي موظف يأتي من طرفه، دون النظر إلى ملف الموظف فعلًا. والعكس صحيح إذا كنت تقترح تقليل الرواتب نظرًا لعجز الميزانية، يمكن أن يتشبث الـ HR بالرواتب العالية لبعض الموظفين، فقط كي يجعلك في موقف حرج أمام المدير.


الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟


والأمر لا يقتصر على الأشخاص، أيضًا مرهون بالمهام الوظيفية نفسها. فلا يجب أن تُكدس الأعمال فوق رأسك باستمرار، الوظيفة الجيدة تعني اهتمامًا بالكيف مقارنة بالكم. فالأفضل إتمام 5 أعمال من أصل 10 جيدًا، بدلًا من إتمام 10 أعمال بجودة لا تتجاوز الـ 50%؛ نظرًا للضغط العصبي والنفسي الواقع عليك وقتها. وعلى صاحب العمل أن يفهم ذلك جيدًا، وألّا يُثقل كاهلك بالأعمال المستمرة بحجة أنك ابن الشركة وأن كل هذا سيُترجم لأموال إضافية في النهاية. لا تقع في هذا الفخ، الوظيفة المريحة هي وظيفة مريحة، ولا تعتمد على تقديم تنازلات، ولا إرضاء للآخرين على حساب النفس.


الوظيفة مملة ورتيبة


هذا الأمر يختلف عن كَون الوظيفة مريحة، هذه المرة يجب أن تكون ممتعة، ومشجعة على الذهاب إليها في الأساس.


تخيل معي أنك ربّ عمل، شركتك تمر بأزمة مالية حاليًّا، ولا يوجد دافع للاستمرار. لكن من الناحية الأخرى، هناك الكثير من الموظفين المهتمين بمستقبل الشركة، ومستقبلهم فيها. لذلك يجب أن تستمر في الذهاب كل يوم، لكن كيف نحول ذلك الجوّ الكئيب، إلى آخر ممتع ومشجع على الاستمرار في العمل؟


الأمر كله مرهون بآلية التنظيم. فإذا أتيت في الصباح، احرص على إلقاء التحية على الجميع. وإذا تفرغت لنصف ساعة، يمكنك الذهاب لجلب وجبة من مطعم، وعلى طريقك تجلب بعض الوجبات للموظفين إذا أراد أحدهم أكل شيءٍ ما. كما أنه إذا كان هناك بالصدفة حدث مهم على التلفاز، أو مباراة كرة قدم في المساء، يمكنك جمع الموظفين بعد ساعات العمل الرسمية، والمشاهدة سويًّا بينما المأكولات والمشروبات لا تنقطع عن الجميع.


الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟


تلك اللمسات الإنسانية الصغيرة هي التي تصنع فرقًا. فوقتها لن يصير الذهاب للعمل مملًا، بل سيكون ممتعًا. لأنه دائمًا هناك شخص يمكن الحديث معه والضحك على نكاته والتعامل معه بأريحية. ونفس الشيء ينطبق على الموظف، وقتها ستكون صناعة الأواصر مع زملاء الوظيفة هي مهمة أسهل بكثير من مهمة ربّ العمل. مجرد شراء مشروب لزميل العمل أو التحدث معه في استراحة القهوة؛ هذا كفيل بجعل بيئة العمل أقل حدة ورتابة، وأكثر متعة وتلقائية.


فإذا لم تكن هناك هذه الأشياء في بيئة عملك، فربما تنبغي الاستقالة فعلًا.


مواعيد العمل حارقة للأعصاب


الوظيفة غير المأسوف عليها، تنطوي على مجموعة من المفردات التي تجعلها هكذا فعلًا، وأهمها هي مواعيد العمل المناسبة للموظف.


هنا يمكن تقسيم ساعات العمل إلى نوعين رئيسيين: الأول هو ساعات العمل المرنة، والثاني هو ساعات العمل المقيدة لكن المحدودة. الساعات المرنة تعني أن المكتب مفتوح طوال الأسبوع، ومكتبك كما هو ولن يجلس عليه أحد غيرك، لكن هناك كميّة معينة من المهام يجب إتمامها في الأسبوع الواحد، ويمكنك إتمامها حسب وقت فراغك؛ لكن المهم أن تُنجز، بدون تكاسل. أو أن تعمل عن طريق الإنترنت، وتكون ملزمًا بتسليم مشروع معين خلال فترة زمنية معينة، وهنا يمكن تقسيم الوقت حسب مفردات المشروع، وجدول أعمال الموظف.


الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟


بينما الساعات المحدودة هي الساعات التقليدية والمتعارف عليها في أي وظيفة خاصة أو حكومية. أن تذهب في الصباح، وتخرج في الظهيرة، أو تذهب في الليل وتخرج في الصباح. والساعات المحدودة إما أن تكون 5 ساعات عمل (بينهم أوقات قصيرة للقهوة والطعام)، أو 7 ساعات من بينهم ساعتين على الأقل للاستراحة والدردشة. مواعيد العمل المرنة تسمح بإدراج عشرات العشرات من النشاطات في الجدول اليومي. تلك الوظيفة المتزنة تسمح لصاحبها بالتنزه مع الأصدقاء، الذهاب للسينما، ضبط الجسم في صالة رياضة، الجري قبل الذهاب للعمل، أو حتى اللعب على الحاسوب ومشاهدة الأفلام والمسلسلات من وقتٍ لآخر. بدلًا من جعل الترفيه كله في يوم الإجازة الأسبوعية، والذي يُقضى في الغالب بالسرير، في محاولة للنوم وتناسي تعب الأسبوع كله.


لذلك المشكلة الحقيقية هي الشركات التي تقدم وظيفة ذات ساعات عمل حارقة للأعصاب. والتي تكون مليئة بالمهام التي لا تكفي ساعات اليوم لإتمامها حتى، فبالتالي يُكدس العمل على الموظف، ليُخصم من راتبه آخر الشهر، أو يترك العمل في النهاية لأنه يدمر حياته تمامًا.


الراتب لا يتناسب مع المجهود


هنا يجب توضيح أمر هام جدًا، مناسبة الوظيفة للشخص لا تقترن بالراتب. فمثلًا الوظائف ذات الرواتب القليلة هي مناسبة لأصحابها، والمتوسطة كذلك، والمرتفعة كذلك. لكن غير المناسب هو العمل بوظيفة من الفئة المرتفعة للرواتب، ويكون مقابلها هو راتب من المتوسطة.


الوظيفة غير المأسوف عليها: متى تتيقن أنه حان وقت الاستقالة فعلًا؟


الشركات التي توظف الناس، يجب أن تطرح شرائح ثابتة لرواتبها، بغض النظر عن مستوى كفاءة الفرد. فالكفاءة لاحقًا تكون لها نقاط، وتُصرف بموجبها علاوة؛ لكن تبقى شريحة الراتب ثابتة لجميع العاملين في نفس الوظيفة المحددة. فإذا قدمت شركة ما وظيفة راتبها هو 500 دولار، بينما المتوسط العامة لرواتب تلك الوظيفة في الشركات الأخرى هو 1000 دولار، فالراتب مجحف للغاية بدون شك. إذا كان ربّ العمل يقدم راتبًا هزيلًا مقارنة بحجم المجهود المبذول، اترك العمل. سيكون من الصعب إيجاد عمل آخر؛ أجل أنا معك. لكن في النهاية ستجد مكانًا يقيم مجهوداتك جيدًا؛ لا تيأس.


كل تلك التناقضات تجعلك في حيرة من أمرك، تجعلك حزينًا، وتجعلك غير شاعر بالأمان نهائيًّا. وقتها لن يكون أمامك حل إلا ترك العمل، والتعامل مع شهور من قلة الموارد المالية والعَجز في المأكل والمشرب والملبس. لكن في النهاية ستجد الوظيفة التي تستحقها، وستبتسم لك الحياة من جديد.