ما لا تذْروه الرياح: إلى أيّ مدى تصمد الهويّة أمام الألم؟

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
ما لا تذْروه الرياح: إلى أيّ مدى تصمد الهويّة أمام الألم؟

يتناول الكاتب عرعار محمد العالي في روايته “ما لا تذروه الرياح”، عيّنة من المجتمع الجزائريّ إبان الثورة التحريرية ضد المستدمِر الفرنسي، عائلة بلقاسم وصراع الهويّة الذي نَشب بين ولديه العبَّاسي والبشير.. فإلى أيّ مدى تصمدُ هويّتَيهما أمام ألم النّار والحديد؟


نبذة عن الكاتب عرعار محمد العالي


ما لا تذْروه الرياح: إلى أيّ مدى تصمد الهويّة أمام الألم؟


وُلد الأديب والرّوائي والقاصّ عرعار محمد العالي بمدينة خَنشلة-الأَوْراسْ في الثالث من شهر مايو سنة 1946م، تلقّى تعليمه الأوّل في الكُتّاب أو ما يعرف بالمدرسة القرآنية، ثم التحق بعد ذلك بالمدرسة النِّظامية الحرّة للتربية والتعليم وحصل على شهادة التعليم الابتدائي، دَلفَ بعد ذلك إلى معهد وثانوية عبد الحميد بن باديس بقَسنطينة ونال شهادة البكالوريا بالجزائر العاصمة، درس في كُليّة الحقوق لمدة عام واحد بجامعة الجزائر ليتّجه نهائياً نحو تكوين خاص في قِطاع الشّباب والرياضة وعمِل طيلة حياته في ذلك القطاع.


صدَر أوّل عمل أدبيّ له سنة 1972م لتتوالى أعماله الأدبيّة بين الرواية والقصّة القصيرة بعد ذلك حتى بلَغتْ في مُجملِها 13 رواية وثَمانِ مجموعات قَصصيّة.


طالتْ مؤلّفاته عِدّة أبحاث ودراسات نقدية أبرزُها بقلم الدّكتور واسيني الأعرج، الدّكتور محمد مصايف والدّكتور محمد بوراس في رسالة الدكتوراه تحت عنوان “البناء الروائي في أعمال عرعار محمد العالي: ما لا تذروه الرياح، الطموح وزمان القلب”.


حصل في مِشواره الأدبي على عِدّة جوائز أدبية وتَكريمات نذكر منها: تَكريمُه من طرف الرّئيس الشّاذلي بن جديد سنة 1987م، تكريم من طرف مُلتقى “شموع لا تنطفئ” بمدينة وهران تحت إشراف مديريّة الثقافة سنتَيْ 2013-2014م، تكريم من طرف جامعة مُعسكر ضِمن ندَوات أدبيّة وتكريم من طرف مدينة خَنشلة.


نبذة عن رواية ما لا تذروه الرياح


ما لا تذْروه الرياح: إلى أيّ مدى تصمد الهويّة أمام الألم؟


لم تدُم فرحة بلقاسم بتزْويج ابنه البشير، فما هي إلا أيام قلائِل حتى وقع ابنه الأخير في قبضة الجنود الفرنسيين الغاشِمين من أجل التّجنيد الإجباري واستغلاله في الحرب، فسُلب منه بطريقة قاسية جداً، لكن الأمر لم يتوقف هنا بل تطور إلى الحد الذي اختار فيه البشير فرنسا طوعاً دون إكراه، وفي مقابل ذلك اختار أخوه العباسي الجزائر طوعاً دون إكراه أيضاً، وطريق الاثنين محفوفٌ بالآلام والمكاره… فإلى أيّ مدى يصمد الضمير وإلى أيّ مدى تصمد الهويّة الجزائرية لكِليْهما أمام نعيم ما وراء البحر (فرنسا) ولهيب ما قبله (الاحتلال الفرنسي)؟


تطور الأحداث


سنعرض في هذا الجزء أهم التطوّرات التي تعرّض لها البشير خاصةً وباقي الشخصيات عامّة، مع توضيح الخلفيّات التي أدّت إلى تلك التغيُّرات النّفسية ولكن قبل ذلك عندي ملاحظة شخصية لك عزيزي القارئ، وأنت تقرأ رواية “ما لا تذروه الرياح” حاول ألّا تشعر بالغَيظ على البشير ولا تحقِد عليه ولا تشعر بالشّفقة تُجاه أخيه العبّاسي، لا ينفطِر قلبُك على ربيعة زوجة البشير ولا تهتمْ بما اقترفتْه فرنسا من جرائم بحقّ سكّان القرية المتواجدة في عُمق الجزائر، وأيضاً، لا تحكُم على فَرانسوازْ بالشّقاء.


يجب على الإنسان أن يؤمن بالسلاح الذي في يده، ولا يُعيرَ اهتماماً بما يملك عدوّه، لأنّ السلاح لا تُعطى له قيمة وحدَه وانّما هو يرتفع أو ينزِل حسْب اليدِ التي تمسكه.


صحيحٌ أن الرواية تبدو موجّهة للجزائريين لكن الأدب مِلكيّة إنسانيّة بدرجة أُولى وتاريخيّة بدرجة ثانية، وما حدث في الرواية لا يزال يتكرر إلى يومنا هذا بأوجُه متعددة لذا، احرص وأنت تقرأ الرواية، على قلبِك أين وجد نفسه فقط ولا تتورّط في معاني الرواية كثيراً.


المَشهد الأول: سقوط الاعتبار


البداية كانت عندما لم يُواصل البشير تلقّي تعليمه النظاميّ بحُجّة أن بلقاسم في حاجة إلى من يُعينه، فباتَ طريدةً سمينة في أعيُن رجال فرنسا من أجل تجنيده إجبارياً في صفوفها، لأنّ ما يُهم الفرنسيين هو ما يمتاز بالحركة والنّشاط وينعمُ بالحياة، والشّباب يستطيع أن يُفيد ويستطيع أن يخلق -حسب تعبير الرّاوي- وعندما جاء اليوم المشؤوم لم يَجد بلقسام بُدّاً من إخفاء ولده في البئر لِيكشف أمره قائدُ المجموعة ويُخرجه الجنود في أَحطِّ صورة ممكنة، كيف بِحالهِ وقد كان يعتبر نفسه أقْسى النّاس أمام زوجتِه، فكيف يرضى بالعكس أمام الجُنود الآن!


المشهد الثاني: بداية الانهيار


في هذا المشهد الغريب وبعد أن حمَل الجنود البشير معهم على مرْكباتِهم المُوحِشة، يشعر البشير بنشوة الانهزام أمام هؤلاء الفرنسيين، فيسْتلذَّ موقِفه المُنْحطّ أمامهم وينظُر إلى الجنود بإكْبار وكُلُّه شغف وانبِهار بقوّتهم وهَيمنتِهم على واقِعه، وفي هاته المرحلة فَشل الضّمير في إعادة البشير إلى جادَّة الصواب رغم الخَيالات والأفكار التي بثّها في رَوْعه، وأهم شيء في هذا المشهد هو حقيقة ما تطرّق إليه مالك بن نبي في كتابِه “شروط النّهضة” وما وَرد فيه حول مُصطلح القابليّة للاستعمار، وكذا نظريّة ابن خلدون القائِلة: المغلُوب يتَشبّهُ أبداً بالغالِب في مَلْبسه ومَركبِه وسِلاحِه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائِر أحْواله.


فتمعّن.


المشهد الثالث: الإغراء


– أَتُحبذ الرّجوع إلى المدرسة؟


– نعم، يا سيدي.


اثنان لن ينْسوا نقاط ضَعفك هُما أنت وعدوّك، وقد أحسنَت فرنسا استغلال نقطة ضَعف البشير لِضمّه إلى صفّها ألا وهي انسلاخُه من المدرسة قهراً، وأُحب أن أُنوّه لكم هنا أن أَحسِنوا عَوْن كلِّ شخص تعرفونه لم يُكمل دراسته، فمَهما بلغَ من المناصب ومهما نال من المكاسب ستبقى تلك الصّفة نَدبة في قلبه فاحذروا المِساس بها… نعود، لم تتردّد فرنسا في تحقيق أُمنيّته بعد تَسْطير شُروطها الخاصّة التي لا تخدُم البشير البتّة، والمؤلم في الأمر أن كل الأفكار التي راودتهُ ويبدو أنها تبعثُ على الأملِ في الرّجوع إلى الوراء قليلاً لم يَكن لها أيّ قيمة تُذكر.


المشهد الرابع: الفراغ


ما إن وطِئت أقدامُ البشير أرض الجزائر العاصمة تحضيراً للإبحارِ إلى مدينة ما وراء البحر، حتى انتابهُ إشفاقٌ شديد على هاته الأرض الطاهرة الزّكيّة كيف نال منها الذّل والهَوان من طرف المستدمِر الفرنسي، ومع ذلك لا تزال تقِف بشُموخ رافضة الركوع عكسَه هو، لكن انتابَه أمر، فما إن غادَر الثّكنة العسكريّة حتى شعر بأنّه مجرّد غريب، غريب عن أهله ووطنه، غريب عن المارّة من الناس، فتَنامى في صدره حِقد بَليغ على كل شيء، وبدأَت تنتابُه أسئلة وُجوديّة عن نفسه وحياته، حتى بعد وصولهم إلى مارسيلية ونُزولهم بباريس تطوّر ذلك الشعور إلى انبهارٍ تامّ بعظَمة فرنسا وانعِزالٍ تامّ عن كل ما يُحيط به.


المشهد الخامس: الانتكاس


خرجت الأمور عن السيطرة ولمْ تخرج، فمِن جِهة أَعلن البشير كُفره بهويّته وغيّر اسمه وتنكّر لِبَني جِلدتِه المُهجّرين إلى فرنسا، وأصبح فرنسياً قلباً إلى حدٍ ما وقالباً إلى حدٍ كبير، ومن جِهة أخرى استحلّ لبطنه الخمر ولفَرْجه بائِعات الهوى المُوزّعات على شوارع بلَد يدّعي التّحضّر، فباع نفسه للشيطان كما يُقال لغرضٍ من الدّنيا قليلْ، وقد كانت معرفته بالمرأة فَرانْسوازْ آخِر دِرهم قام بدفعه للشيطان… وأيّ شيطان!


المشهد ما قبل الأخير: مرض السّل


وقَع خبر استقلال الجزائر على أُذُني البشير كالصّاعقة، أظْلمت الدّنيا من حوله ولم تعُد فرنسا بِحاجة إلى وُجوده على أرضها، تنكّر له زملاؤه العسكريين ولم يغِب على بالهم يوماً بأنه جزائريّ وسيبقى في نظرِهم جزائرياً حقيراً، تهالكَت صِحته بسبب إدمان الكُحوليات وطَقس فرنسا البارد ومتاعب الخِدمة العسكريّة، واهْتاجَ ضميره كما لم يهتجْ من قبل، ودخل البشير في سِلسلة لا مُتناهية من الشّعور بالذّنب إلى الخِزي إلى التّساؤلات والتناقُضات التي انتابَتهُ طِيلة أيامه التي قضاها بالمَشْفى، واتّضحَتْ له جليّاً تلك الصورة الخاطئة التي كان يحيا بِها وعليها وبَنى عليها شخصيته الشِّبه جديدة.


لن يكون هناك مشهدٌ أخير، أدَعُك عزيزي القارئ تكتشِفْه بنفسك ولعلّك تتسائل مالّذي حلّ بعائلة البشير المُتواجدة بالجزائر، ما مصير العباسي، وهل سيُشفى البشير والأهمُّ من ذلك كلِّه، هل بالإمكان أن يُولد البشير ولادة جديدة؟


حتّى الرياح العاتِيات


إن كل إنسان هو ذلك الإنسان، ولن يرجع إنساناً آخر، سواءاً أقلّد ذلك الأخير أم لا.


لعلّ أهم ما يُميز هذه الرواية هو الحِبكة التي حاكَ بها عرعار محمد العالي أحداث الرواية وأيضا أسلوبَه في الغَوصِ عميقاً في ما يَنتاب الشّخصيات من أفكار ينْدى الجَبينُ لبعضها، قُدرته الوصفيّة الغَزيرة تجعلُك تستشعر المكان والجوّ المُحيط به والشُّحنْ النّفسيّة وتعيشَ لحظة بلحظة أحداث الرواية بمُنخفضاتها ومرتفعاتها، إلى أنْ تصدِمك النّهاية التي أحزَنني أنّي بلغْتُها وتمنّيت لو طالَت الرواية صفحاتٍ أخرى حتى أستفيد منها أكثر.


رواية ما لا تذروه الرياح للكاتب عرعار محمد العالي، حقّاً هناك أشياءٌ أودعَها الله فينا، لا تقْوى حتّى الرياح العاتِيات على العبَث بها، أحرِق كلّ الوثائق، ابتعِد عن كلّ من يعرِفك، غيّر اسمك إن شئْت، غادر بلَدك إن شئت، أبْطِن ما تريد وأظْهر ما تريد لكن تذكّر، للضمير رأي آخر دائماً.