رسالة إلى أصحاب نظرية الأرض المسطحة ومُفكّري سمكة التونة العنيدة

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
رسالة إلى أصحاب نظرية الأرض المسطحة ومُفكّري سمكة التونة العنيدة

أصحاب نظرية الأرض المسطحة.


الذين قالوا إنّ يوم القيامة عام 2012 وسينتهي العالم في شهر ديسمبر. المؤمنون بوجود كائنات فضائية وأطباق طائرة. مؤيدو فرضية وحش بحيرة «لوخ نيس» في اسكتلندا. مَن يعتقدون بوجود المؤامرة الكونية… وهلم جرًا من هؤلاء الناس الذي يريدون إقناعك أنك سمكة!


إذ كان يقول الروائي حاد الذهن بسيط الكلمات «ميلان كونديرا»: “تخيّل أن يأتيك أحدهم ويقول لك إنك سمكة! هل ترى أسخف مِن هذا الادعاء؟ في الحقيقة نعم هناك ما هو أسخف، وهو أن تحاول أن تثبت أنك لست سمكة”. أن تثبت أن الأرض غير مسطحة لمن يدعي أنها مسطحة شبيه بمحاولة نفي تهمة السمكيّة عنك. لأن الأمر واضح وصريح، والدنو لهذا المستوى من الجدل سيكون أمرًا بلا أهمية وسخيفًا لأبعد الحدود.


لا أحب انتقاد الناس بعينهم إنما تفنيد الفكرة التي يحملونها. إذ لا بد من التذكير أن العقول الصغيرة هي تلك التي تناقش الأشخاص، والمتوسطة تلك التي تهتم بالأشياء والماديات، أما الكبيرة فهي التي تُعنى بالأفكار والمفاهيم المجردة. لذلك كلما اتجه الإنسان نحو الأعلى في فكره، كلما قل اهتمامه بالناس والمظاهر وزاد تعلقه بالتجريد الفكري والفلسفي. ولعل هذا يشرح السبب لماذا كان غالبيّة المفكرين والفلاسفة رثي الملابس والمظهر طويلي اللحى، ونادرًا ما كانوا أصحاب علاقات اجتماعية وطيدة.


لا يمكن أن نواجه «فكرة أمين صبري» التي تتجلى بأن وسائل التواصل والحرية الشبكية على الإنترنت مكّنت الجميع مِن الكلام بكل شيء، سوى بتعليمهم أمرًا واحدًا لا ثاني له، وهو التفكير القويم النقدي المعتمد على مبادئ المنطق السليم. ولأن الجميع يتاجر بالمنطق ويدعي أنه يمتلكه، سأشرح بشيء من التبسيط التفكير المنطقي وكيف يمكنك أن ترى العالم مِن خلاله.


التفكير المنطقي ببساطة هو التفكير الرياضي؛ أي القائم على مبادئ الرياضيات. عاميًا، تستخدم كلمة «غير منطقي» للدلالة على «غير مقنع» إلا أن هذا المعنى خاطئ تمامًا. لأنه عندما نطلب من شيء ما أن يكون منطقيًا، كأننا نقول إنّه يجب أن يكون خاضعًا لمبادئ الرياضيات، ولنأخذ على سبيل المثال القانون الثاني في المنطق المعروف بـ «قانون عدم التناقض».


القانون الثاني في المنطق يصرّح بأنه لا يمكن أن يجتمع النقيضان معًا. مثلًا (فلان ذكي وغبي. هذا الشيء بارد وحار. أنت طويل وقصير. هي مرام ودلال). هذه كلها عبارات خاطئة منطقيًا لأنها غير صحيحة رياضيًا. والإثبات الرياضي سيأخذ شكلًا قريبًا من التالي:


فلان ذكي وغبي. لنفرض أن: (ذكي = -5) و (غبي = +5).


نحن نقول فلان غبي وذكي: أي أن فلان هو +5 و -5 معًا! هذا يؤدي أن فلان يساوي صفر! لأنه لا يمكن أن يجتمع النقيضان معًا. من هنا يمكننا رفع استقراء كامل من هذا الاستقراء الرياضي الجزئي لنقول إنّ فلان الغبي والذكي هو كائن خيالي لا وجود له في المنطق.


في الحقيقة هذا مثال بسيط جدًا فقط كي أوضح الفكرة ليس أكثر. كون غالبية الناس يستخدمون كلمة «منطقي وغير منطقي» بمعنى أنه «مقنع أو غير مقنع» بدون دراية لوجود مبادئ مُحددة لإطلاق هذه الصفة على ما نريد تدعيم موقفه.


يمكنك أن تشتق مِن هذا القانون البسيط أيضًا أن غالبية العقائد والأيدولوجيات والتوجهات في صلبها غير منطقية (غير خاضعة للمبادئ الرياضية)، لذلك تجدها تأخذ صيغة إيمانية اجتماعية أكثر من كونها منطقية. لأن المنطق حيّز دقيق جدًا مُرتبط بالنتائج التي يجب أن تتحقق ويمكن إخضاعها للتجربة والتكرار وهذا ما يكون عبئًا صعب التحقيق لديها.


فالسلاح الأوّل الواجب وضعه فيمن يُدخَل في رأسه الكلام كي يقنعوه بأي طريقة ووسيلة أنه سمكة، هو المنطق. إذ بمجرد معرفة آلية عمله وكيف تسير طرق التفكير السليمة فلا خوف عليه، ويصبح حرًا للانطلاق في بحر الجدالات والأفكار أيًا كانت ما تكون. أما النقطة الثانية للمواجهة فتكون حتمًا ولا بد منها هي الفلسفة.



«إن الإنسان إنما تُحدده قدرته على الجدل، بالقدر نفسه الذي تحدده فيه براعته القتاليّة كمحارب» – هوميروس.



تعرّضت الفلسفة مؤخرًا لسوء فهم كبير بسبب أنها عادةً ما تعرض بأن مَن يمارسها مجموعة مِن رثيّ المظهر الذي يتكلمون بأشياء لا يفهمها أحد ولا يريد أن يفهمها أحد، ثم يحلف الناس بأسمائهم دون أن يفهموا لماذا هم مهمين ولماذا ذاع صيتهم. والأسوأ مِن هذا كله أن تكون الفكرة التي تخطر على البال عندما نذكر كلمة فيلسوف، هي شخصيات مثل سقراط أو أفلاطون وأرسطو، لأن هؤلاء كانوا أصحاب فلسفة قبل 3000 آلاف عام من الآن. أي الفلسفة التي تعلّم طرق التفكير وتضع أساساته، وهذا كان أمرًا مفيدًا لمن عاش في أثينا قبل تلك القرون.


أما الآن فيجب أن يخطر على بالك عندما تسمع كلمة فلسفة أسماء حديثة مثل: (فيتغنشتاين وراسل وفريجه والفلسفة التحليلية واللغة). تلك الفلسفة الجديدة لا تلك القديمة التي كانت قبل زمن سحيق. كان يعتقد أرسطو أن أسنان المرأة عشرين وأنها أقل من الرجل! هل فعلًا ما زلت تعتقد أن الفلسفة هي فكر ذلك الزمن؟ إن لم تحدث معلوماتك إلى الآن، فالبوصلة تُشير لخلل لا بد مِن إصلاحه.


من وجهة نظر شخصية بحتة، يمكنك أن تستأنس بها أو ترميها في سلة القمامة. قرأت في عدة جوانب، الأدب والعلوم والتاريخ والفلسفة، إضافة لكتب طب الأسنان الرديئة التي حفظتها غصبًا عني، إلا أن القراءة التي توسّع أطر التفكير كانت دائمًا وأبدًا الفلسفة. من ناحية المعلومات، سأصدقك القول بأنّه لا يوجد منافس للكتب العلميّة في رشق المعلومات وإعطائها ضمن الكتب، أما عندما نتحدث عن تكبير الإطار الفكري والرؤيا العامة، فالفلسفة قولًا واحدًا هي سيدة هذا المجال.


سبب ذلك أنها تسلّط الضوء على ما وراء الأمور. رغم أن التعريف الاصطلاحي للفلسفة هو «حب الحكمة» إلا أن التعريف الحركي لها هو (النظر فيما وراء الأمور وفنّ تسليط الضوء على الجوانب الأخرى غير المرئية). على سبيل المثال، يهمل الدماغ البشري صورة الأنف في مقدمة الوجه لأنه اعتاد عليه. حاول أن تتأمل الآن أنفك وستجده دائمًا موجودًا في مقدمة وجهك إلا أن صورته تُحذف ويتجاهلها الدماغ لأنه اعتاد عليها فتغدو بلا أهمية. والفلسفة هي عكس هذا تمامًا، هي فن تصوير الأنف وتذكيرك أنه موجود، فنّ أن ترى أنفك الفكري أمامك دائمًا.


على سبيل المثال، عندما يذهب أحدهم ليشتري الطعام، من خلال المكان الذي يشتري منه طعامه يمكنك أن تعرف توجهه السياسي، وعن طريق البائع الذي يذهب إليه يمكنك معرفة مستواه الاجتماعي. ونظرًا للطريقة التي يحمل بها الأغراض وهل يركب بسيارته أم يعود مشيًا يمكنك أن تتوقّع وتعرف مستواه المادي. وهلم جرًا.


قد يسأل أحدهم، لمَ كثرة الكلام وكل هذا التحليل؟ في الحقيقة، هذه هي «فلسفة الطعام» بنوع من التبسيط. فلسفة رؤية الأنف. النظر للأمور التي يتجاهلها الناس. البحث في الباطن وأبعد من الظاهر، فبالنسبة للإنسان العادي هو رجل يحتاج طعامًا فيذهب ويشتري، أما بالنسبة للفيلسوف فالأمر أعمق ورؤيا لما وراء الحوادث وتأصيلها.


لكيلا يُفهم الأمر على نحو خاطئ، كان هذا مثالًا بسيطًا جدًا فقط لتوضيح الأمر، الفلسفة ذات مفاهيم أغور وأسس فكريّة أصلب، لا مجرد طعام ومحلات بقالة. فقط من باب التوضيح والتبسيط كان المثال.


بعد أن تحكم الأسس المنطقية في تفكيرك وتوسع الإطار العام الخلفي بالرؤيا الفلسفية، ستفتح لنفسك منهجًا قويمًا لا يشق له غبار، وإن استمريت بذلك لمدة 5 سنوات مثلًا، خصوصًا في هذا الزمن الذي يتاح لنا جميعًا أن نقرأ ونستمع ونرى معظم أعمال المفكرين والفلاسفة الكبار، فسأضمن لك خلال مدة وجيزة أن تصبح من كبار مفكري ومثقفي العالم. فلا تستهن بالأمر، لا تستخف بتراكمات وتطور العقل البشري عندما يَضبط نفسهُ على الإعدادات الصحيحة وفقًا لقواعد المنطق والفلسفة وغيرها من قويم الرؤى.


أما الذين يريدون إقناعك أنك سمكة، فذرهم بعيدًا. ولا تحاول أن تثبت العكس، لأن محاولة اثبات أنك غير سمكة لأحد يعتقد أنك سمكة. لا يدل سوى أنك فعلًا سمكة مثلهم. فالدنو إلى هذا المستوى من البديهيات المنطقية أمر مؤسف ومخيب للآمال أكثر مِن كونه مضحكًا.


نعم أنت لست سمكة، إلا أن الأهم هو ألا تحاول أن تثبت أنك لست سمكة.


في رحلة البحث عن حياة خارج كوكب الأرض .. حياةٌ تبحث عن حياة