في تفكيك القول (النتائج حينما تصبح أسباباً)

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
في تفكيك القول (النتائج حينما تصبح أسباباً)

في حادثة قد تبدو عابرة ومكررة، يقف اثنان في طابور طويل للحصول على الوقود ويدور بينهما الحديث التالي:


  • لماذا تغيرت الدنيا؟ ولماذا لم يعد هناك خير؟

  • لأن الناس لم تعد تحب بعضها.

  • لماذا لا يصطفّون بالدور؟

  • لأنهم جشعون.

قد يكون هذا الكلام مُبرّرًا لكنّه يحيل بمنهج تفكيكي إلى جملة ملاحظات تتعلّق بالذهنية العامة.


هذا الكلام يحيل إلى إشارات ومعاني تتعلّق بنظام عام في اللغة، يستخدمه العامّة وفق ظروفهم وثقافتهم ليعبّروا عبر الكلمات /الدوال عن مضامين/ مدلولات، تتحقق من خلالها تلك المنظومة العامة في اللغة، أو تصبح واقعاً عيانيّاً، في روابط العلاقة بين البشر مستعملي هذه اللغة، توجّه سلوكهم، عبر ثقافة تحددها آفاق تطوّر هذه اللغة، بما هي فضاء للفكر.


تفكيك الأسئلة


فالأسئلة تحيل إلى نفي لزمن وتثبيت لآخر، أمّا الأجوبة فتؤكّد ذلك بصيغة شعورية، أخلاقية؛ فالأجوبة/ الدوال تشير لمدلولات في الذهن هي أحكام قيمة دون الرجوع إلى الظروف الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية، ولو أجبنا بحكم (الواقع) لقلنا تغيّرت الظروف وتغيّرت معها المصالح فتبدّلت علاقات الناس، فينتج أن فقدان الحب هو النتيجة الآن وليس السبب كما في الحديث.


كذلك لا يصطفّ الناس بالطابور خشية عدم حصولهم على حاجتهم وعدم وثوقهم بأنهم سيحصّلون حقوقهم، فتصبح المطالبة غير القانونية والعشوائية وعدم الاعتراف بحق الآخر أو عدم رؤيته يعبّر عن جشع. بالتالي لو كانوا يثقون بحصولهم على حقوقهم لوقفوا بشكل حضاري.


النتائج تصبح أسباباً


إذن.. (الجشع) بهذا الإطار نتيجة وليس سبباً كذلك.  في الحالتين تنقلب النتائج في الحديث إلى أسباب، والنتائج ( قيميّة) أخلاقية. هذا ليس تعميماً صوريّاً لننظر إلى المزيد والهدف منه. تعتبر أحكام القيمة من: جشع، أنانية، خيانة، تكبّر، النحس، وغيرها الكثير أساساً في التعامل بين الناس معتمدين على نظرات مسبقة تُقيّم الآخرين من خلالها، عبر لصق صفة (كما أسلفنا) تختزل الآخر لتكون أساساً في العلاقة. فالشخص لا يرى أمامه الإمكانيات والواقع والمستقبل، بل يرى هذه الصفة، سلبية أو إيجابية، فالإنسان يصبح خيّراً أو شريراً بحكم الصفة المُسبقة الملتصقة به. تحلّ الكون في كلمات تعني في النفس وتؤثّر بها وظيفيّاً أكثر ممّا تدل أو تعني في الخارج.


الوظيفة التي تؤديها الكلمات


القلق الوجودي، اللامعيارية، الحدس، وغيرها من كلمات عدم الاستقرار، هذه الكلمات تشكل عائقاً أمام الذهن عن رؤية الحقيقة ما خلف المباشر، وأسباب أي حدث. لذلك فاللجوء إلى تحصين النفس وحمايتها هي من الدفاعات الأوالية لدى هذه الذهنية.


إنّ تغييب العقل والعلم وأمام الشعور بالقهر والغبن يحضر الغيبيات لتسيطر على الذهن والسلوك، فلا عجب من اللجوء إلى التمائم والأدعيات والمزر وغيرها كما جاء في كتاب (دراسات في العقلية العربية –الخرافة) طالما هناك فجوة تستطيع أن تملأها هذه الخرافات داخل النفس البشرية. وتتحول الطاقة الشعورية الأخلاقية إلى تهويمات تكون أسباباً ونتائج، من خلالها تختزل الأحداث والقضايا وعبرها ترتبط الناس بعلاقاتها وعبرها كذلك يصبح الآخر خيّراً أو شريراً، فالإنسان الشرير وفق هذه الذهنية ركبه عفريت والإنسان المُعتدى عليه ركبه عفريت آخر وعليه تقديم الأضحيات والهبات (طبعاً لمن يستغل جهله وخضوعه).


نتائج الانطلاق من الأخلاق ومن الحقوق


إذا أكملنا الحديث الأول نجد الردود التالية: إمّا أن لا ينضبط المتحاوران في الدور ويفعلان ما تفعله الناس في الفوضى، أو يبقيان يندبان الأخلاق ويقولون (حسبنا الله ونعم الوكيل) (عوجا). ولا تتوقع رد فعل إيجابي بناءً على حديثهما واستنتاجاتهما بأن يحاولا توعية الناس لأهمية الدور، بالتالي الانطلاق الأخلاقي في حل المشاكل لا يؤدي إلّا إلى (إرجاء الأمور إلى الله) أمّا الانطلاق من دائرة الحقوق ومعرفة الأسباب، تؤدي إلى فعل إيجابي حضاري/مدني يكرّس الثقافة المدنيّة الحقوقيّة، أمّا الغيبيات والخرافات والظلامية فقد أدّت إلى الانتكاس إلى أوليات دفاعية بدائية نلحظها ببساطة من خلال: الانكفاء على الذات، الانكفاء على الجماعة (عائلة، عشيرة، طائفة،..) أو التماهي بأساليب وقيم المعتدي (أي تمثّل سلوكه وطريقته بالحياة) كما درسها مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجيا الإنسان المقهور.


أسئلة مفتوحة


أولها عن دور العلم والتعليم في إحياء العقل لدينا فكذلك له جذور في تاريخنا ووعينا، أم أنّ هناك فجوة لا يستطيع العلم والتعليم (لأسباب تتعلّق بهما من حيث طريقة تناولهما لدى مؤسسات دولنا) ردمها، أم أنّ هناك ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية تتعلّق بهذه الثقافة الشفاهية، الممتدّة جذورها لحقب سالفة، ما تزال تعيد إنتاج نتائجها فينا رغم كلّ التطوّر المُنجز، لذلك يصحّ القول إنّنا في بنية استبداد الجهل بكل مستويات حياتنا، والذي نعيشه اليوم، إعادة (بشكل مختلف) لما نقده الكواكبي قبل قرنين من الزمن.